د . ممدوح حمادة – الناس نيوز ::
أمّةٌ من التنك، قالها زياد مرّة لأبي يوسف رئيس قسم الإنتاج الفنّي في وزارة الثقافة والإرشاد القومي حينها في جلسة جمَعَتْه معه في مقهى الروضة، وعندما تساءل أبو يوسف عن سبب وصمِه لهذه الأمة بالتنكية، ردّ عليه زياد بأن السبب الوحيد لاستخدامه هذه الصفة هو أنه لا يريد أن يتفوّه بكلمات بذيئة تخرج من فمه، فتساءل أبو يوسف وعلى وجهه ابتسامة ودّية:
- حسناً، ولماذا تريد أن تشتم هذه الأمّة بكلمات بذيئة؟!
- لأنني أمضيت عمري في الدراسة، وقدّمت أكثر من خمسين عملاً يُثبت أنني مختصّ في مجال عملي، ومع ذلك لم يبقَ أحمق أو حمقاء في البلد لم يجد لنفسه مكاناً يعمل فيه ويتقاضى راتباً، بينما أنا وأمثالي نتسكّع مثل كلابٍ شاردة بالكاد نحصل على ما يسدّ رمقنا.
ثم التفت إلى أبي يوسف وتابع: - أهي أمّة تنكية أم أنها ليست كذلك؟!
- إنه الفساد يا أستاذ زياد، الفساد وليس الأمّة.
أوضح أبو يوسف، ولكن ذلك كان مبرراً إضافياً لجعل زياد يحتدّ أكثر: - ومن أين جاء الفساد، هل استوردناه من الخارج، ألسنا صانعيه وحماته.
فتح أبو يوسف فمه يريد أن يقول شيئاً، ولكن زياد أسكته فوراً وكأنه يعرف ما يريد أبو يوسف قوله: - لا تقلْ لي الاستعمار العثماني، جميع الأمم التي استعمرها العثمانيون تطوّرت، وأصبحت دولاً باستثنائنا نحن الذين لم تتخطّ أنظمة الحُكم عندنا شكلَ المزارع الخاصّة، كل زعيم فيها يتصرّف وكأنها أملاك شخصية، يهبها لمَنْ يشاء ويمنعها عمّن يشاء، وزيرك الذي تعمل تحت إمرته ما علاقته بالثقافة.
وهنا رفع زياد حذاءه وضرب عليه: - أقطع يدي من الكتف إن لم يكن في كعب حذائي هذا ثقافة أكثر من رأس وزيرك.
ثم التفت زياد باتجاه أبي يوسف فلم يجده، ومنذ ذلك اليوم لم يلتقِ أبو يوسف بزياد، ولكن مقولة الأمّة التنكية لم تبارح تفكيره، وكان يزداد قناعة بصحّة هذه المقولة كلما شاهد أصناف المثقّفين الذين يرتزقون على حساب الوزارة، والذين كانوا يشكلّون حول الوزير طوقاً من الأصدقاء والأقارب والمعارف، كان يقول أبو يوسف لزوجته عنهم: - كلما كان موقع الواحد منهم أكثر قرباً من الوزير كلما كان غباؤه أشدّ.
أما علناً، فقد كان أبو يوسف يحمّل زياد مسؤولية جفاء وزارة الثقافة معه ويشدّد على أنه: - لازم يكون براغماتي أكثر يا أخي.
واليوم حانت الفرصة لكي يقدّم أبو يوسف الدليل على أن الأمّة ليست تنكية، وعلى أنها تنظر إلى أدبائها باحترام وتعتني بهم، ولو كان ذلك على شكل مبادرات فردية، فقد كُلّف أبو يوسف اليوم بنشر إعلان عن مسابقة لكُتّاب السيناريو، من أجل كتابة سيناريو لفيلم عن الزير سالم ضمن سلسلة من الأفلام المخصّصة للأطفال من أجل تعريفهم بحكايا التراث، وقد قرّر أبو يوسف أن الفرصة قد حانت من أجل إنصاف هذا الكاتب الرفيع، فأعلن عن المسابقة، ولكنه قرّر أن يجعلها صورية، حيث إنه قد جعل زياد ينجح حتى قبل إعلانها. - وعندما حضر زياد إلى مكتب أبي يوسف في وزارة الثقافة استغرب وقوع الاختيار عليه، رغم أن موعد المسابقة لم يحنْ بعد، فلوّح أبو يوسف قائلاً:
- لا عليك، فأنا الحَكم وأنا أعرف النتائج مسبقاً.
احتجّ زياد على هذا السلوك وقال: - يا أخي ربما يكون هناك مَنْ هو أفضل مني، دعنا ننتظر نتائج المسابقة حقّاً.
- لا تكن أحمقاً فالفرصة جاءت إليك، لا تضيّعها.
أبو يوسف قال جملة (لا تكن أحمقاً) في نفسه طبعاً، فهو لا يجرؤ أن يقول ذلك لزياد؛ لأنه سينصرف دون انتظار أن يكمل أبو يوسف كلامه. - باختصار وبعد نقاش طويل، وأخذ وردّ، وافق زياد على اقتراح أبي يوسف الذي قدّم له سلفة تبلغ خمسين ألف ليرة، لم يستطع زياد طويلاً أن يصدّق أنها في جيبه، وعندما كان واقفاً ينتظر الحافلة لم يجرؤْ على إخراجها من جيبه، فدسّ يده هناك، وأخذ يعدّها بصعوبة، أحسّ أن المبلغ ينقصه خمسمئة ليرة، فعدّها في الحافلة داخل جيبه مرّة أخرى، وكانت النتيجة نفسها واعتقد بدايةً أن عدّها داخل جيبه أمرٌ صعب يؤدي إلى الخطأ، ولكنه في البيت تأكّد من نقص المبلغ، وقال في نفسه (الله يسامحك يا أبا يوسف)، وتضايق من الموضوع، ولكن زوجته هدّأت من روعه، وقالت:
- لا داعي للغضب، قدّم لك خمسين ألفاً، اعتبرْها “كمسيون”، وقلْ له شكراً بدلاً من الغضب.
اقتنع زياد بكلام زوجته، وابتلع غضبه، وأخذ يفكّر بالسيناريو الذي سيحصل عندما ينجزه على مبلغ 300 ألف ليرة، وإذا نجح العمل وكُلّف بغيره فإنه سيشتري بيتاً في ضاحية دمّر، لا في الحجر الأسود حيث يقيم في بيتٍ مستأجر الآن.
لم يتوقّف صهيل الخيل ولا صليل السيوف طوال الليال الثلاث الأولى التي يمكن القول إن زياد أنجز فيها أكثر من نصف العمل، ثم نام في اليوم الرابع ليتابع معاركه على الورق ثلاثة أيام أُخرَ، أنجز عند فجر آخر يوم منها المشهد الأخير من السيناريو، ولم يتمكّن من النوم حيث قام بالاستحمام ليحافظ على نشاطه، ثم شرب مع زوجته القهوة وتوجّه إلى وزارة الثقافة، وانتظر خلف زاوية قبالتها يراقب وصول أبي يوسف لكيلا يبدو أنه متلهّف فيصغر في أعينهم، أبو يوسف لم يأتِ إلى العمل في الثامنة كما هو مفترض، بل جاء في العاشرة، ولم تمضِ ربع ساعة حتى كان زياد يطرق بابه، رحّب به أبو يوسف أيما ترحيب وامتدحه وأثنى عليه لسرعته في إنجاز السيناريو، وقارن بينه وبين الكُتّاب الشباب الذين يتذرّعون بموضوع القريحة والإلهام، فيسلّمون النصوص بعد أشهر من تكليفهم بها، وبعد أن شربا القهوة معاً طلب أبو يوسف من زياد أن يراجعه بعد أيام، عندها يكون قد انتهى من قراءة النصّ، ووضع ختمه فوقه.
الأيام الثلاثة التي تفصله عن يوم المراجعة أمضاها زياد بالنقاش مع زوجته حول المشروع الذي سيقومان به بمساعدة هذا المبلغ، وتضاربت الآراء أكثر من مرّة، ووصلت إلى درجة الخصام الذي كان الزوجان أثناءه يجلسان وكل يدير ظهره إلى الآخر، ولكن الوئام لا يلبث أن يعود من جديد، وهكذا مضت الأيام الثلاثة دون الوصول إلى اتّفاق، وكان زياد في صباح اليوم الرابع عند مكتب أبي يوسف، وكله أمل بأنه سيعود ببقية المبلغ الذي وعده به، ولكن أبا يوسف كان منفعلاً جدّاً ومتضايقاً من محتوى السيناريو وتساءل بدهشة: - تريد أن تقول لي إن الزير ارتكب هذه المجازر، و رَوَّعَ بكل خلق الله هؤلاء من أجل الأخذ بثأر أخيه؟
- نعم، هو كذلك.
أجاب زياد ببرود، ثم أردف: - ألم تقرأ القصّة؟
- منذ زمن بعيد.
قال أبو يوسف وأوضح لزياد: - إن الدولة تضع الغالي والرخيص من أجل التخلّص من هذه العادات البالية التي تناقض فكر الحزب، ثم نأتي نحن ونجعل من هؤلاء أبطالاً في عيون أطفالنا؟ لا لا لا لا يجوز يجب أن نُحدثَ خرقاً.
- وكيف نُحدثُ هذا الخرق؟
- فلْيكن الزير فلّاحاً وجسّاس إقطاعياً.
- لم يكن هناك إقطاع وفلّاحون في عهد الزير.
أوضح زياد لأبي يوسف الذي لوّح بقفا يده مُقلّلاً من أهمية الموضوع وقال: - من الذي سيسألك إن كان هناك إقطاع أم لم يكن؟ الأطفال سيصدّقون كل ما يقال لهم.
- أنا لا أتحدّث عن الأطفال، أنا أتحدّث عن النقّاد وجمهور الكبار.
- لا تُعرهم اهتماماً، هؤلاء مقابل خمسين ألفاً سيكتبون أن الزير كان رائد فضاء، لا تقلق بشأنهم سيشاهد عملك الملايين، ولن يقرأ مقالاتهم في الصحف أكثر من مئة شخص أنت الأقوى، هيّا انطلق إلى البيت وعدّل النصّ كما قلت لك، ليس من الضروري إعادة الكتابة من الألف إلى الياء، عدّل خمسة إلى ستة مشاهد وانتهى الأمر.
لم يتمكّن زياد من الردّ وكان يرغب بالاعتذار عن العمل، ولكنه تذكّر السلفة التي حصل عليها، وتبخُرها بشكل شبه كامل في الأيام الماضية وأصابه دوار وهو يتخيّل كيف سيكتب النقّاد عنه، لن يرأف به أحد سيلسعونه بسياطهم بكل ما يملكون من قوة، سيسخرون منه والمشكلة أنهم يملكون كل الحقّ في ذلك، فكّر بأن يستدين المبلغ من أحد ما ويعيد السلفة لأبي يوسف، ولكن زوجته وبّخته وطلبت منه أن يفعل كما طلب منه أبو يوسف، فمن الذي سيضحّي له بمبلغ خمسين ألفاً وهو يعرف أنه لن يتمكّن من سداده؟ هذا شبه مستحيل.
وهكذا داس زياد على كرامته، وحوّل جسّاساً إلى إقطاعي والزير إلى فلّاح ثار عليه، وقدّم النصّ بحلّته الجديدة لأبي يوسف الذي طلب مهلة لقراءة النصّ، يعود بعدها زياد لاستلام بقية المبلغ.
في هذه المرّة لم يناقش زياد مع زوجته أية مشاريع، كان حزيناً مصاباً بالاكتئاب يخلو بنفسه معظم الوقت، وكانت زوجته تُهوّن عليه وتؤكّد له بأن أحداً لن يتعرّض له وكلام سخيف من هذا القبيل.
في الموعد المحدّد كان زياد منزرعاً أمام طاولة أبي يوسف الذي كانت ابتسامة الرضا واضحة على محيّاه بعكس المرّة الماضية، ولكنه اعترض على نقطة صغيرة كما سمّاها: - الآن يمكن القول بأن النصّ ممتاز ورائع، هذا هو الزير الذي نريده، لا ذلك الأرعن الذي كتبتْ عنه في المرّة الأولى، ولكن هناك نقطة صغيرة غير منطقية وتحتاج إلى تبرير بعض الشيء.
- ماهي؟
- الزير فلّاح مثله مثل بقية الفلاحين ما الذي يجعله مختلفاً بكل هذا الوعي عن بقية الفلاحين؟
- يحدث في بعض الأحيان أن يكون الشخص أوعى من أبناء مجتمعه، أين المشكلة؟
- يحدث، ولكن ليس إلى هذه الدرجة.
- وما العمل؟
تساءل زياد فردّ عليه أبو يوسف بكل ثقة: - فلْيكن هناك معلّم مدرسة تمّ فرزه من وزارة التعليم إلى تلك المنطقة النائية، وقام بتوعية أهلها، ولْيكن عضواً عاملاً في الحزب، بهذا الشكل يصبح موقف الزير مبرّراً، ونبيّن دور المثقّف الثوري بنفس الوقت.
- عن أي مدرسة وأي وزارة تربية تتحدّث يا أبا يوسف وعن أي عضو عامل؟! لم يكن في ذلك الوقت لا مدارس ولا وزارات ولا حزب بعث.
ضرب أبو يوسف بيده على الطاولة وقال: - كفى تذمّراً، ليس من الضروري أن يُأخذ التاريخ كما هو قص لصق، فلْنلعبْ به قليلاً ونحسّنه أمام جمهور الأطفال، نحن هنا هدفنا تربية النشء لا تمجيد الزير سالم.
لم يقوَ زياد على الردّ، وكان متوتراً إلى أبعد الحدود، حتى أن فكرة الانتحار راودته وهو في الحافلة التي تقلّه إلى منزله، أما زوجته فقد شعرت بما يعتريه من حزن، ولم تحاول إجباره على فعل ما يريده أبو يوسف، ولكنها نوّهت له أن أبا يوسف ليس وزير الثقافة وأن فوقه موظّفين كثر. - لماذا لا تُراجع موظّفاً أعلى من أبي يوسف؟
هذا السؤال كما تهيّأ لزياد كان الحل الذي طال انتظار العقدة له، وبالفعل فقد كان في صباح اليوم التالي في مكتب نائب الوزير الذي كان بدروه رئيساً لأبي يوسف، والذي قهقه مطوّلاً وانبثقت من عينيه الدموع لشدّة ما اعتصرهما أثناء الضحك، ثم بعد أن تمالك نفسه تساءل: - أتريد أن تقول بأن أبا يوسف قام بكل هذه البشاعة بحقّ الزير سالم فقط من أجل موضوع الثأر؟
- هكذا بدأت القصّة.
بيّنَ زياد الأمر، فهزّ نائب الوزير رأسه دلالة على تفاهة أبي يوسف وقال لزياد: - دعْك منه اكتب الزير كما كان، اكتب الحقيقة ولا تخشَ بها في الحقّ لومة لائم.
- شكراً جزيلاً.
قال زياد، وقد رُدّت إليه الروح بعد حصوله على الضوء الأخضر من أجل التخلّص من الخزعبلات التي أدخلها أبو يوسف على النصّ، ولكن نائب الوزير فاجأه: - وفي نهاية السيناريو اكتبْ أربعة إلى خمسة مشاهد، لا يهمّ، حدّد عدد المشاهد بنفسك كما تقتضيه الحاجة الدرامية، عن دور ثورة الثامن من آذار المجيدة والحركة التصحيحية المباركة في القضاء على هذه العادات البالية.