د . محمد حبش – الناس نيوز ::
جاء شهر تشرين الأول أشد الشهور قهراً ووجعاً في بلاد الشام فقد بدأ بمآسي حمص وإدلب ثم انتقل إلى مأساة غزة وأقفل على أكثر من عشرة آلاف ضحية، وثلاثين ألف جريح، وشراد نصف مليون، ودمار مدن كاملة، ووحش الحرب يقول هل من مزيد!!
ولكن الجانب الأشد إيلاماً وتوحشاً هو انهيار المنطومة الأخلاقية للعالم الحر، واصطفاف السياسات الغربية بالطابور خلف نزوة إسرائيل المتوحشة بالقضاء على غزة، وتواثب زعماء الدول الكبرى إلى تل أبيب لإعلان تأييدهم لرغبات إسرائيل في اجتياح غزة وتدميرها بالكامل، وأعلن عدد من الزعماء الذين يقودون الدول الأكثر تقدماً ورفاهية وديمقراطية وليبرالية علناً بأنهم ضد أي وقف لإطلاق النار وأن قيمهم الليبرالية والديمقراطية تفرض عليهم أخلاقياً أن يستمروا في المذبحة إلى النهاية، فلا مصالحة مع الإرهاب، وتبرع الرئيس الفرنسي بتشكيل تحالف دولي على غرار تحالف الحرب على داعش وذلك للقضاء على حماس، وهو أمر غير ممكن إلا بالقضاء على غزة بمن فيها.!!
وفي توضيح ذلك ظهر نتنياهو يشرح للجنود مهمتهم وأنهم امتداد لجيش أشعيا الذي هاجم الكنعانيين بوحشية، ولمن يريد معرفة ما قاله أشعيا لجيشه فهذا هو بالحرف كما في التوراة: (سفر اشعيا)
15 كُلُّ مَنْ وُجِدَ يُطْعَنُ، وَكُلُّ مَنِ انْحَاشَ يَسْقُطُ بِالسَّيْفِ.
16 وَتُحَطَّمُ أَطْفَالُهُمْ أَمَامَ عُيُونِهِمْ، وَتُنْهَبُ بُيُوتُهُمْ وَتُفْضَحُ نِسَاؤُهُمْ.….
30 وَلْوِلْ أَيُّهَا الْبَابُ. اصْرُخِي أَيَّتُهَا الْمَدِينَةُ. قَدْ ذَابَ جَمِيعُكِ يَا فِلِسْطِينُ
وحين طالب الناس الحكومة الإسرائيلية بشرح معنى جيش أشعيا، وتحذيره من وجود أبرياء في غزة، تم تسريب شريط واضح لإحدى النساء في الحكومة الإسرائيلية وهي تقول بوضوح: نعم هناك أبرياء في غزة، وهم 236 بريئاً إسرائيلياً تحتجزهم حماس، وعندما يتم تحريرهم فالكل في غزة مجرمون وسنقصف المشافي ونقتل الجميع رجالاً ونساء وأطفالاً… فلا أحد هناك يستحق الرحمة!!
وفي الواقع فإن ظهور هذه المواقف الإسرائيلية ليس مفاجئاً، فهذا ما يتوقعه المرء من دولة احتلال، ولكن المؤلم والمذهل أن تتولى دول العالم الحر الاصطفاف وراء هذا التوحش البهيمي، وتبرير كل ما يجري في سياق كهنوتي مظلم كهذا، ثم يعود الجميع إلى المنصات البرلمانية الحديثة التي ترفع شعار العدالة وحقوق الإنسان.
وفي هذه الأيام المريرة أتعرض كما يتعرض غيري من دعاة الإخاء الإنساني لسؤالات شامتة” أهذا ما تبشرون به من الإخاء الإنساني والديني؟ هل اقتنعتم اليوم أن الإنسانية كذبة لا وجوه لها إلا في خيال الفلاسفة، وهل صدقتم معنا أن وقيقة حقوق الإنسان هي إحدى الكتب الخرافية التي تشبه قصة ليلى والذئب أو السندباد أو أليس في بلاد العجائب؟؟
ولا أكتمك الصدمة، فهي بالفعل أسئلة قاسية مريرة وجارحة وقد بتنا نهرب منها بالتأويل والمعاذير، واللجوء إلى عبارة إنهم لا يمثلون الحضارة وهي عبارة تشبه قولنا المستمر عن داعش إنهم لا يمثلون الإسلام، أو قولنا عن الصليبيين إنهم لا يمثلون المسيحية، أو عن زعماء العرب إنهم لا يمثلون العملانية … الخ
ولكن ..هل حان الوقت بالفعل للاعتراف بأننا في حديثنا عن الإخاء الإنساني كنا نظارد خيط دخان؟ وهل العالم بالفعل غابة ذئاب لا مكان فيها لحمامة سلام؟
وهل يتعين علينا الاعتراف بالفعل أننا كنا في ضلال مبين حين لم نلتحق بكتائب الأقصى وفصائل القسام، أو ننخرط في حزب الله
في الواقع وعلى الرغم من الواقع الصارخ في بعث الكراهية، فإنك مدعو للدفاع عن قيم الإنسانية وأخلاق الحضارة، وإذا كانت الإنسانية وهماً والحضارة زيفاً لدى العالم القوي، فما جدوى هذه المزامير التي ترتلها؟ ولمن تقرا نسخ التنزيل؟
في الواقع لا زالت قناعتي تتزايد بالإخاء الإنساني على الرغم من تشرين الأسود، وما سبقه من تشارين تشبهه سواداً ويأساً، فالإنسان مشروع الله في الأرض، وقد خلق ليسعد وله سخر الله ما في الموات وما في الأرض جميعاً منه، ولكن كيف؟
قناعتي ان الأمر يرتبط مباشرة بالدول الفاشلة والدول الناجحة، فالدول الفاشلة هي تلك التي اختارت أن تبقى خارج حركة التاريخ وقوانينه، ولم تدرك أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وحتى لا أتحدث بضبابية وغموض فالدول الفاشلة تحديداً هي سوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان، وهذه الدول ستجد العالم غير إنساني ومتوحش ولن تثق بشيء من سياسات الدول الكبرى طالما أنها لم تأت تأت بجيوشها لتغير لهم حالهم على الوجه الذي يريدون!!
أما البلاد التي حققت نجاحات تنمية حقيقية، ووفرت لشعبها علاقات دولية جيدة، بديمقراطية أو بدون، فهي لا تعيش عقدة الكراهية مع الآخر، وهي قادرة أن تستمر في خطابها الإنساني إلى الغاية وتعيش منسجمة مع أفكارها في التعاون الدولي الإخاء الإنساني.
المأساة أن الشعب الفلسطيني بالذات خضع لتآمر دولي حقيقي، حيث اتفقت إرادة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية على التوبة من جريمة الهولوكوست بفرض وجود إسرائيل في المنطقة، وحمايتها ككيان حليف للغرب يحقق مصالحه، وبالتالي بسحق إرادة الفلسطينيين في تحقيق حياة حرة وكريمة.
وحده السادات من وجهة نظري أدرك وجوه المسألة المختلفة وقرأ الواقع الجديد، ونجح مع زميله رابين بإنجاز اتفاق سلام قوي ينتج خريطة جديدة لفلسطين وإسرائيل تحميها القوانين الدولية، ولكن لم يعش المشروع إلا أشهراً قليلة حتى تم اغتيال السادات ثم اغتيال رابين بالأداة الأصولية نفسها يهودياً وإسلامياً، واعتبر الاستبداد العربي هذا المصير جزاء وفاقاً لكل من يفكر بتحويل الكراهية إلى محبة والبغضاء إلى سلام.
وبقيت الاتفاقيات مهشمة منهكة، وأعيد إنتاج دورة العنف من جديد بإشراف الاستبداد العربي والإسرائيلي، وهي دورة تحتاج باستمرار إلى وقود من ثقافة الكراهية، يشترك الفريقان اللدودان في تأمينها لكل من الشعبين بأدلة دامغة وحماس منقطع النظير.
لا أستطيع هنا أن أقدم وصفة لحل المسألة القضية الفلسطينية، وإنما أعالج فقط ثقافة الكراهية التي ينتجها هذا الصراع، ومسؤولية أصحاب الأقلام الشريفة في حماية الخطاب الإنساني، وتعزيز فرص بقائه وتأكيد وجوده، والتأيد أن ما يجري على أرض فلسطين من توحش لا يحوز أن يقتل الإنسان فينا، ولا يخحوز أن يعود بنا إلى شريعة الغاب، وإنما يجب أن يوحدنا جميعاً في مواجهة روح الكراهية التي تنتجها المشاريع المظلمة.
أتابع كل يوم عشرات المظاهرات الحيوية الفعالة والتي بلغ بعضها حد المظاهرات المليونية في لندن وباريس وبرلين واستوكهولم ودوسلدوف وبروكسل، وكلها تطالب بوضع حد للبغي الإسرائيلي في غزة، وإعلان نتنياهو مجرم حرب، والمطالبة بقطع العلاقات مع هذه الدولة المتوحشة!
وفي السياق إياه وقف غوتيرش وهو الأمين العام للأمم المتحدة ليهاجم بقوة سلوك إسرائيل، وصوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة لوقف البغي الإسرائيلي، وتحدث مئات النواب في برلمانات أوروبا وأمريكا وأمريكا الاتينية واليابان والصين ضد سلوك إسرائيل، وهجم متحمسون على سفن التسليح المعدة للذهاب إلى إسرائيل ومنعوا تحركها، ولا تزال الجهود الإنسانية تتصاعد عبر أفراد وجمعيات ودول، حتى في الدول المنحازة كأمريكا وبريطانيا وفرنسا، فإن أحزاب المعارضة وأفراداً كثيرين من الأحزاب الحاكمة نفسها وقفوا بشجاعة وبسالة يناصرون الإنسان ويفضحون وجه البغي الغاشم الذي يلبسه الصهيوني الحاقد تحت عنوان قتال الإرهاب.
إننا مدعوون أن نرفض جرائم الاحتلال والاجتياح، وكذلك أن ندين بقوة كل اعتداء على مدني سواء تم تحت عنوان محاربة الإرهاب أو محاربة الاحتلال، فالإنسان هو الإنسان، ولا يجوز منح المقاومة المشروعة ولا الدفاع عن النفس أي حصانة لافتراس الإنسان، ولا معنى لحضارة غالبة أو متطورة أو مزدهرة لا تقيم وزناً لحياة الإنسان.
ديني واعتقادي ان الله خلق العالم من أجل نهاية سعيدة، وأن ثمانين بالمائة من سكان هذا الكوكب باتوا يعيشون بشكل ما حياة مستقرة وسعيدة في مجتمعاتهم، ولا يزال خمس هذا الكوكب يعيش صراعات بائسة على حافة التاريخ، وأشد الناس شراً أولئك الذيم يمتلكون مفاتيح القرية العالمية ولكنهم لا يزالون يغلقون أبوابها في وجه الفقراء والمحرومين، خاصة أولئك الفقراء لثقافة الحرية والمحرومين من نعمة العدالة حقوق الإنسان.
سنبقى في الجانب المضيء من التاريخ ندافع عن حقوق الإنسان وإخائه وكرامته، مؤمنين إيماناً يزداد رسوخاً كل يوم بمسؤوليتنا على هذا الكوكب في بناء أسرة واحدة تحت الله.