دمشق – الناس نيوز – لينا مسعود
ليست الغاية أن نخاف، ولكن الغاية لفت الانتباه إلى كل المخاطر، بغية إيجاد الحلول، والخروج، قدر الإمكان بأقل الخسائر النفسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تسببت بها جائحة كورونا. فهي حدث جديد، لم نتعوده. إنها تجربة جديدة بالنسبة لمعظم سكان العالم، لذلك نرى أن الناس باتوا رهينة لمحابس ثلاثة: الحجر، الإنترنت، الاقتصاد.
محبس الحجر: هزت جائحة كورونا العالم، وأصبح معروفا للجميع أن الحل الوحيد المتاح، حتى هذا التاريخ للوقاية منه هو الحَجْر المنزلي. وبالتأكيد لهذا الحجر، والحجر الصحي للمتوقَّع إصابتُهم، وعزل للمصابين، كان له الدور الكبير في تخفيف حدة الانتشار، وبالتالي إنقاذ حياة الكثيرين.
كل هدا باختصار يؤدي إلى التباعد الاجتماعي، وترافق مع توقف المدارس والجامعات والمراكز التجارية، وحركة الطيران، وكل أماكن التجمعات من سينما ومسارح وملاعب، ودور العبادة، وتعليق معظم الأنشطة. وقامت مكتبة كوكرين المتخصصة بجمع البيانات الصحية بدراسة تحليلية لمعظم الدراسات حول تأثير الحجر، وأجرت محاكاة حاسوبية، لتؤكد أنه أدى إلى انخفاض معدل العدوى بنسبة تتراوح بين 44% و81%، ومعدل الوفيات بنسبة تتراوح بين 31% و63%. مما يؤكد أن قرار الحجر كان ضرورياً.
ونحن نتحدث عن الصحة الجسدية، هل ننسى الصحة النفسية، والأثر الاجتماعي للحجر؟
يؤكد مركز الدراسات البريطاني معهد كينجز كوليدج في دراسة نشرت بالمجلة الصحية دو لنسي، أن الحجر الصحي عموما هو تجربة غير مرضية بالنسبة لمن يخضعون لها، ويعتبر أن العزل عن الأهل والأحباب، وفقدان الحرية، والارتياب من تطورات المرض، والملل، كلها عوامل يمكن أن تتسبب في حالات مأساوية.
وصل عدد الأشخاص في الحجر نحو3 مليارات شخص، يعيشون في حالة من العزلة، وهذا سيظهر تداعياته النفسيّة على العديد من السكّان بعد مرور ما يقارب الثلاثة إلى ستة أشهر. هذا ما بيّنه تقرير صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي بعنوان: “الإغلاق هو أكبر تجربة نفسية للعالم… وسندفع الثمن”.
وبحسب التقرير، فإن سكان العالم سيواجهون العديد من المشاكل النفسية المتعلقة بالغضب، والقلق، وغيرها، بسبب عزلهم في المنازل.
ومن الناحية الاجتماعية، كانت للحجر آثار سلبية كبرى، فعلى سبيل المثال تضاعف العنف الأسري، وأصبح صعباً على الزوجة المعنَّفة حتى التبليغ في ظل إجراءات الحجر المشددة.
في شهر أبريل الماضي، ألقى أنطونيو غوتيريس، الأمين العام للأمم المتحدة، بياناً عاماً، دعا فيه الحكومات إلى وضع سلامة النساء أولا في استجابتها للوباء. ورافقت رسالته مجموعة من التوصيات، بما في ذلك أن تزيد الحكومات الاستثمار في منظمات المجتمع المدني، وتعلن عن الملاجئ للنساء، وتواصل ملاحقة المعتدين واحتجاز الأفراد المدانين بارتكاب العنف ضد المرأة في السجون.
هذا محبس غير اعتيادي، إذ إنه إجراء استثنائي يقيد الحريات الفردية حتى في الدول الديمقراطية, ولا شك ورغم أهميته في الحفاظ على الصحة والحياة، فإن له مفاعيل سلبية اجتماعية ونفسية واقتصادية.
محبس الإنترنت: تحدث الكثيرون عن فضائل الإنترنت، وخاصة فيما يتعلق بتقديم الخدمات الإلكترونية، فعندما تشكلت بنى تحتية قوية لدى الدول طورت الحكومة الإلكترونية، أي تقديم الحكومة الخدمات للمواطنين ورجال الأعمال عبر الإنترنت، ولا يخفى على أحد حجم الجهد والمال الذي توفره الدول على المواطنين، وبعد سنوات ومع تراكم بيانات المواطنين لدى الحكومات تطورت إلى الحكومة النقالة والحكومة الذكية، حيث ستأتيك الخدمات إليك دون أن تطلبها. وتطورت التجارة الإلكترونية وأصبحت جميع التبادلات التجارية في الدول التي تملك بنى تحتية وقانونية مناسبة تجري عبر الإنترنت، وطبعاَ ترافق ذلك مع تطور البنوك الإلكترونية والتبادل الإلكتروني النقدي. ونشط التعليم الافتراضي والتعليم عن بعد، مما وفر سهولة في الوصول إلى الشرائح الكبرى من الناس، إضافة إلى توفير المال والموارد من أبنية وقاعات وغيرها. وتطورت لدى شركات كبرى وخاصة تلك التي تتوزع فروعها في أنحاء مختلفة من العالم، العمل عن بعد، مع توفر أساليب المراقبة الإدارية للدوام والأداء، فاختصر الموظفون ساعات الانتقال إلى مكان العمل، واختصرت الشركات المتطلبات اللوجيستية اللازمة لراحة موظفيها.
وعندما اضطر الناس لالتزام منازلهم بفعل جائحة كورونا صرخ العالم صرخة أرخميدس وجدتها, فاستخدام التقانات سيجعل الأمور تسير بشكل مقبول، إضافة إلى توفر وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الترفيه. وماذا بعد؟
اعتاد الناس على استخدام التقانات، ولكن في الوقت نفسه كانوا يرون أصدقاءهم، ويجتمعون بهم، مما يحقق لهم الاستقرار النفسي والاجتماعي، واعتاد الأطفال والمراهقون استخدام ما يوفره الإنترنت من موارد تعليمية، لكنهم يجتمعون بزملائهم، ويتحاورون، وينفذون المشاريع المشتركة، يختلفون ويتفقون، ويقومون بنشاطات ترفيهية.
لقد تحول الإنسان إلى شخص افتراضي، وبات حبيس شخصية قد لا تشبهه في الواقع، وتواصل مع أصدقاء افتراضيين قد لا يعرف عنهم إلا القليل من خلال ما يكتبونه، أو من خلال نشاطاتهم على الإنترنت. إضافة إلى أن معظم الناس يصبحون كسالى بسبب الاستخدام المفرط للإنترنت، مما يؤدي إلى اضطراب في الحياة الروتينية. ولا شك أن الشباب هم أكثر المتضررين من الاستخدام المفرط للإنترنت حيث سينفصلون كلياً عن المجتمع الحقيقي.
لن يتقبل الأطفال طويلا فكرة التعليم الافتراضي، ولن ينسجموا معها، ولا الموظفون سيتقبلون العمل عن بعد، بعد أن اعتادوا الشعور بأهميتهم من خلال وجودهم على طاولة العمل والناس بانتظار إجاباتهم على كتبهم، ولا المسنون سيفقدون الرغبة في لعب طاولة النرد أو الشطرنج مع أترابهم وجهاً لوجه، فيستفزون بعضهم بالفوز، ويسترجعون في المقاهي ذكريات الزمن الماضي.
إنه محبس حقيقي، يحول الإنسان إلى شخص افتراضي يبحث عن الانعتاق إلى شخصيته الحقيقية.
محبس الاقتصاد:
إن كبح جماح النشاط الاقتصادي كأحد الإجراءات الضرورية لمواجهة جائحة كورونا أدى إلى تراجع انبعاثات الغازات الدفينة، مثل ثاني أكسيد الكربون، والموجودة في الغلاف الجوي ولها الدور الأول في الاحتباس الحراري. فخلال الأزمة المالية في 2008 تراجع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة حوالي 1,7 في المائة مقارنة بالعام الذي سبقه. وهذا قاد بدوره إلى تراجع الانبعاثات العالمية الناجمة عن احتراق مصادر الطاقة التقليدية، بنسبة وصلت إلى 1,4 في المئة. وحسب مجلة دوتشلاند الألمانية يُتَوَقّع تراجع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة تصل إلى 2,5 حتى 3 في المئة بسبب أزمة كورونا. هذا الأمر يمكن أن يقود إلى تراجع الانبعاثات الغازية بنسبة تتراوح بين 2 و3 في المئة. ويُعتَقد أن مفاعيل أزمة كورونا وتأثيرها على الانبعاثات وعلى تحول المناخ، ستكون واضحة وسوف تستمر على المدى الطويل.
ماذا عن الاقتصاد؟ لقد أفلست شركات كثيرة، وانهارت سوق النفط العالمية وتوقعات بتجاوز خسائر شركات الطيران بحسب الاتحاد الدولي للطيران (إياتا) 314 مليار دولار خلال العام 2020، وتراجعت مبيعات شركات السيارات الفرنسية بنسبة 70% خلال شهر آذار، وغير ذلك من شركات التأمين وهبوط البورصة. وفي الوقت نفسه انتعشت بعض الشركات مثل شركات التسوق الإلكتروني كشركة أمازون، وشركة فيسبوك التي طورت من أعمالها وأدخلت خدمة المؤتمرات الإلكترونية لستين شخصاً متزامنين مستفيدة من “فرصة” الحجر المفروض.
وطبعاَ الانعكاس الأكبر سيكون على الناس. سارعت بعض الدول مثل أستراليا إلى معالجة الآثار الاقتصادية الناجمة عن الجائحة، فدعمت قطاعات الأعمال، والمجتمع وأعلنت الحكومة الأسترالية عن منح 1500 دولار أسترالي، يدفع كل أسبوعين للأشخاص والعائلات الذين فقدوا وظائفهم بسبب فيروس كورونا، وضخت الحكومة نحو ترليون و300 مليار دولار لحماية الاقتصاد الوطني ومعالجة كل سلبيات فيروس كورونا وعن خطة تخفيض الضرائب ، وتأجيل بعضها ، فضلا عن ذلك فإن الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي الذي فرضته الحكومة كان مدروسا بعناية إذ سمحت بموجبه للأشخاص بممارسة الرياضة في الهواء الطلق مع الالتزام بالتباعد الاجتماعي وخصصت عشرات ملايين الدولارات للمعالجات النفسية الصعبة التي نجمت عن الحجر ووفرت استشاريين وأطباء نفسيين من خلال خطوط اتصالات ساخنة على مدار الساعة تقريبا وعالجت معظم حالات الطوارئ إلخ ، ولم تدخر جهدا في أي اتجاه لحماية المجتمع والبلاد .
وحسب تقرير الأمم المتحدة للعام 2020، فإن أكثر من 120 دولة من أصل 188 يقل دخل الفرد فيها عن 14 الف دولار. وهناك دول يقل دخل الفرد فيها عن 500 دولار مثل سوريا التي يصل دخل الفرد السنوي فيها إلى 473 دولارا وتقع في ذيل القائمة. وتشير المعطيات أن الناس في مثل هذه الحالات لا يتحملون أن تتوقف أعمالهم، لأنهم يحصلون على احتياجاتهم أو بعضها من مردود عملهم اليومي، خاصة أن بعضهم وبفعل قرارات الحكومات، منعوا من نشاطاتهم المتعلقة منها بالمطاعم والمقاهي والاختلاط الاجتماعي والتجمعات الكبيرة والنشاطات العامة كالمباريات والمهرجانات والحفلات وغيرها الكثير . حتى أن عمال المطاعم في إيطاليا، والتي يبلغ دخل الفرد السنوي فيها 30 ألف دولار في العام ، نفذوا اعتصاما للمطالبة بفك الحجر عنهم .
ومما تقدم يبدو أن محبس الاقتصاد ليس هو المشكلة فقط، بل محبس الفقر والجوع هو المشكلة العميقة ، الذي لو استمر لوقت اطول ، لرأى الناس أن فيروس كورونا ربما بدا أرحم …