[jnews_post_author ]
يزعم الطغاة الذين نجوا من غضب شعوبهم، وهربوا من بلدانهم تحت وطأة ثورة شعبية أو انقلاب، أنهم كانوا سياسيين لا مستبدين، سواء الذين وقفوا ضد المد الاشتراكي، أو الذين عملوا على ترسيخ الاشتراكية في بلدانهم. وفي الحالتين، استدعى إيمانهم بالاشتراكية، أو بسحقها، موجات من الإرهاب والقمع لم تستثن القتل والاعتقال والتشريد والإعدامات والتغييب القسري. طالت هذه الحالات بلداناً في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، تقريبا شملت أكثر من نصف العالم.
ليس هذا ذنب الأفكار الاشتراكية، أو الرأسمالية، ولا الأفكار التي تطوف أرجاء العالم، طالما بعضها يتبخر دونما أن يترك أثراً، سوى بضعة ملايين من الجثث، إنما هي جرائم العقل الذي برر الطغيان للبقاء في السلطة… هذه الدعوى راجت واتهمت العقل صانع الأفكار والدكتاتوريات، هل يكون الحل بإلغاء العقل، أم بإعدام الأفكار؟ ليس العقل إلا وسيلة لهذا وذاك، لا يستطيع التوقف عن العمل، خاصة عندما يستخدمه البشر في تحقيق طموحاتهم، وإن كان للشر أكثر منه للخير، مع أنه أنتج أعظم الأفكار التي أسهمت في تقدم الإنسانية، وأكثر الأفكار إجراماً، فكان السبب في عذابات البشر، فالغرم بالغنم، حسب قانون جائر.
يعمي الجشعُ الطاغية عن النهاية المتوقعة، فالإقامة في السلطة مهما امتدت فهي محدودة، يخرج منها جثة إلى القبر، مثقوباً بالرصاص، أو أشلاء، وربما مشيعاً بموكب مهيب، لن يطول الوقت، عندما يُعبث بقبره، ويتبدد رفاته بين الأقدام. وإذا نجح في الهرب، فسوف يغادر من بلده حاملاً معه حقائب الدولارات والجواهر، تسبقه حسابات مصرفية في الخارج متخمة بالعملات المتنوعة، يقيم آمناً في بلدان ديمقراطية، لا تدعه ينتظر الحصول على الإقامة المؤقتة ولا الدائمة، وتمنحه بسخاء حقوقاً، لا تُمنح للاجئين الهاربين من القمع في بلده نفسها.
ما الأسباب التي تخول الحكومات الغربية الحق في معاملته بكرم؟ إنها الديمقراطية هذا ما يزعمونه. بالمقابل سيكون الديكتاتور السابق كريماً معهم في السر لقاء تعاطفهم معه في محنته، فملايين الدولارات سوف تستثمر على أراضيهم، ولن يبخل على الوسطاء والسماسرة من السياسيين بالرشاوى، والتسعيرة باهظة في هذه الحالات.
أما الصحافة، فبعدما لم توفره من مصداقية تحقيقاتها بتوثيق جرائمه والتنكيل بشعبه بمقابلات مع شهود عيان، فضحت تجاوزاته لحقوق الإنسان… عندما كان في السلطة. بينما بعد وصوله إلى بلد ديمقراطي، والتذرع بالحقوق التي تمنحه إياها الحرية، والتمتع بما منعه عن شعبه. لا تخذله الصحافة، تفتح له صفحاتها للدفاع عن نفسه، والتعبير عن إحساسه بالظلم لتنكر شعبه له، وأقرب المقربين إليه الذين لولاه لما كانوا شيئا، أو غدر قادة الجيش الذين انقلبوا عليه. وسيدافع عن النهج الاشتراكي أو الرأسمالي الذي كان سينهض بالبلاد، ولا يعدم الحجج، فالاشتراكية كانت سمة العصر، مثلما الرأسمالية كانت حقيقته الراسخة، ولو أن أي سياسي كان في منصبه، لفعل ما فعله. وسواء كان هذا أو ذاك، فالملايين آمنت بالاشتراكية أو الرأسمالية. أما هو فمارس سياسة كان من أعراضها السجون والمشانق، ولا يلام وحده، فالخبراء الروس أو الأمريكان لم يقصروا في النصائح. ترى ماذا كانت؟ القتل بالجملة واغتيال المعارضين والاعتقالات لأجل غير محدود، والتعذيب حتى الموت.
وإذا كانت الأموال التي نهبها ستوفر له رفاهية بلا حدود، ولسنوات طويلة تتجاوز حياته، وربما حياة أحفاده، لكن من دون سلطة، وحيداً منبوذاً، وبلا عزاء، ما دام خرج مشيعاً بالعار واللعنات، أمر واحد يشفي غليله، عندما يحاول إقناع المقربين إليه، والصحافة أيضاً، أو يقنع نفسه، بأن البلد التي طرد منها، أصبحت أسوأ مما كانت عليه عندما غادرها.
الطغاة آمنون؟ نعم آمنون. سواء كان في لجوئهم إلى دولة ديمقراطية أو شمولية، ملكية أو جمهورية. كلها سيان، سيوفرون له الأمان، ما دام الدكتاتور عمل حسابه مذ كان في السلطة باستباق أيامه السوداء بأيام بيضاء، بإيداع الأموال التي نهبها في مصارف البلدان التي سيختبئ في منتجعاتها، ونسج علاقات خاصة مع سياسييها، يضمنون له تمتعاً بحياة سخية بالأمان، بينما كان يتفنن في تعذيب شعبه، لا يخشى العقاب، مادامت الضمانة الحقيقية هي أن العالم أرض الله الواسعة، لا تعدم أنظمة حكم، أبوابها مفتوحة له.
تدعي الدول أنها لا تتخلى عن حلفائها، مع هذا كثيراً ما انتُقدت أمريكا على تخليها عن أصدقائها من طغاة أمريكا اللاتينية، ولا ننسى شاه إيران وغيره، ليس لأنها ضد الدكتاتوريات، بل تريد نسج علاقة مع القادمين الجدد، هذا إذا لم تكن وراء الانقلاب الذي أطاح به، واختيار دكتاتور أكثر خنوعاً وأقل كلفة. أما الروس فلا يتخلون عن جماعتهم من الطغاة، ومثلما تمنح حق اللجوء لجواسيسها، يستقبلون الدكتاتور بصفة: عميل.
إن الوفاء للحلفاء أو التنكر لهم، لا علاقة له بالإنسانية إلا من ناحية فقدانها، ليسوا أكثر من شركاء للدكتاتور، سواء كانوا غادرين أو أوفياء.