وائل السوّاح – الناس نيوز
الديمقراطية الانتخابية (أو الديمقراطية الإجرائية، كما يسميها عادل ضاهر) تقوم على حكم الأغلبية من خلال اختيار الحاكم عن طريق التصويت في صناديق الاقتراع. ويمكن وصف هذا النوع من الديمقراطية بأنه “نظام يتضمن توسيع قاعدة المشاركة في عمليه صنع القرار السياسي، والذي يتحقق من خلال الانتخابات التنافسية.” ويركّز هذا التعريف في الأساس على التنافس الانتخابي كمتغير جوهري للديمقراطية، ويتفق على أن الأخيرة هي نظام للسلطة السياسية قد يتحقق بغض النظر عن أي سمات اقتصادية اجتماعية. بيد أنّ ذلك، وإن كان مقبولا في وقت ما في الماضي، لم يعد مقبولا اليوم لوصف الديمقراطية الحقيقية أو “الديمقراطية المثبّتة” التي تفترض مراقبة ماذا سيفعل الحاكم بالتفويض الذي حصل عليه؟ كيف يحكم؟ وكيف يتصرف بالسلطة الممنوحة له. وبذلك تأخذ الديمقراطية الحديثة تعريفاً أوسع وأدق من تعريفاتها السابقة: فهي حكم الأغلبية وصون حقوق الأقلية. أما الفهم البسيط للديمقراطية باعتبارها حكم الأغلبية العددية فحسب فسوف تكون له نتائج كارثية كالتي نشهدها اليوم في العراق، إذ يعيش الآشوريون والسريان والكلدان والتركمان، بشكل خاص، قلقاً كبيراً على مستقبلهم الثقافي، بل والوجودي أيضاً، بسبب طغيان الأغلبية العددية، الذي نتج من الديمقراطية الميكانيكية. لنتخيل مثلا أن الأغلبية تقرر لنا ماذا نأكل وكيف نلبس ومن نتزوج، فهل سنكون سعداء؟ ثم لا ننسينّ أن معتقدات الأغلبية لا يعني أنها دوما على حقّ، وقد أثبت التاريخ أن الأغلبية اتخذت قرارات خاطئة في أحيان كثيرة. ولنتذكّر أن الأغلبية هي التي اختارت هتلر مستشارا لألمانيا ومن ثمّ زعيما أوحدا.
إن الديمقراطية الحقيقية (المثبّتة أو الليبرالية) تقوم بالتأكيد على صناديق الانتخابات، ولكنها يجب أيضا أن تقوم على شيئين أساسيين هما سيادة القانون والحريّات المدنية. إنها تولي اهتماما فائقا لمبدأ الحرية باعتبارها الغاية الأساسية التي يتطلع إليها الفرد بطبيعته ومن ثم فإن النظام الديمقراطي، وفق هذا الفهم يتميّز، بالإضافة إلى الانتخابات التنافسية الحرة والنزيهة، بمجموعة من السمات الأساسية التي يأتي في مقدمتها ضمان حقوق الأفراد وحرياتهم في الاعتقاد، والرأي والتعبير والتجمع والملكية. ولا بدّ للديمقراطية أن تقوم في ظلّ حكم القانون (كما سنبيّن لاحقا) لضمان تحقيق هذه الحريات بشكل متساو لجميع المواطنين وتستند على قضاء عادل ونزيه، وتؤسّس لاحترام الأقليات الثقافية أو الأثنية أو الدينية، وتعمل على إيجاد قنوات مفتوحة ـ بخلاف الأحزاب أو الانتخابات – أمام جميع المواطنين، للتعبير عن مصالحهم بالشكل المناسب.
كيف تكون الانتخابات ديمقراطية؟
هل يمكن للانتخابات أن تكون غير ديمقراطية. تُرينا التجارب في الدول الدكتاتورية أن الحكومات هنالك تجري انتخابات صورية لتبقي الحال على ما هو عليه ولكن بإضافة مسحة تجميلية ديمقراطية. ونحن نعرف أن دولا مثل العراق تحت صدام حسن وسوريا تحت حافظ وبشار الأسد وإيران بعد الثورة وحتى كوريا الديمقراطية تجري انتخابات شكلية لا تؤدي إلى تغير في شكل الحكم ولا في الحزب الحاكم. لذلك، لكي تُعتبر الانتخابات ديمقراطية، يجب أن تكون أولا دورية ونزيهة وحرة وشفافة، وأن تجري تحت إشراف هيئة مستقلة وأن يحق للمؤسسات المدنية ووسائل الإعلام أن تراقب العملية الانتخابية. وتكون هذه الانتخابات ذات معنى عندما تكون النتائج غير محسومة لغاية صدور النتائج الرسمية، وإذا أدت إلى تغير في الحزب الحاكم وفي السياسات العامة للحكومات التي تنتصر في الانتخابات.
وبالتالي فإن صندوق الانتخاب لوحده (رغم كونه ركنا أساسيا من أركان الديمقراطية) لا يكفي وحيدا لتعريف الديمقراطية على أنها ديمقراطية حقّة. ففي كثير من الحالات يمكن أن تُقام انتخابات حرّة (انتخابات تشيلي عام 1996، أو الانتخابات الإيرانية، مثالا) ولكنها لا تؤدي إلى تثبيت الديمقراطية، بل تؤدي إلى تكريس الدمج بين السلطات الثلاث وخفض سقف الحريات وتكميم الصحافة. وإذن فإن الانتخابات (سواء أكانت حرة أم لا) جاءت بحكومات تسيء
وعلى هذا، فإن الانتخابات تكون ديمقراطية حقا فقط عندما تترافق الانتخابات مع نقلة أوسع على صعيد الثقافة السياسية وتشكيل مؤسسات الدولة الديمقراطية، ويتمتع فيها جميع الأفراد والجماعات بحريات غير منقوصة تقوم على أساس المواطنة والمساواة والشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
وإذا أردنا اختصار ميزات الديمقراطية المثبّتة، فإننا نستطيع إيجازها بما يلي: (البروفيسور عادل ضاهر) أولاً: أن تكون الإرادة الجمعية الواحدة مصدراً للسلطة والتشريع؛ وثانياً: الحياد، الذي يعني أن حق تقرير القيم التي ينبغي أن ينظم حولها مُتَّحَدِهم الاجتماعي هو حق لكل عضو من أعضاء هذا المتحد، وليس لفئة منهم أو حتى لأكثريتهم؛ وثالثاً: إعطاء كل عضو من أعضاء المتحد حقاً متساوياً ومماثلاً للجميع في ممارسة الحرية على أوسع نطاق؛ ورابعاً: لا يجوز تجريد أي عضو من أعضاء الدولة من حقوق المواطنة على نحو تعسفي، أي مثلاً، على أساس ديني أو عرقي؛ وخامساً: وجود إطار تعاوني تتوافر ضمنه الشروط القمينة بحصول تفاعل اجتماعي حواري بين كل ممثلي المصالح المشروعة والمنظورات القيمية المتنوعة، على أساس مبدأ الاحترام المتبادل. فإذا توصلنا إلى هذه الديمقراطية، تغدو الديمقراطية اللعبة الوحيدة المقبولة في البلاد، كما يرى لينز وستفان في مقالتهما “نحو ديمقراطية مثبّتة”، فتمتنع كل المجموعات عن أي محاولة لقلب النظام الديمقراطي أو للترويج للعنف المحلّي والدولي بغاية الانفصال عن الدولة، كما تقتنع أغلبية السكان الساحقة بأن أي تغيير سيسي في البلاد لا يتم إلا من خلال قواعد اللعبة الديمقراطية، وتتمتع البلاد بثقافة مدنية وقيم ثابتة تقوم على أساس المواطنة والمساواة أمام القانون ودولة المؤسسات.
ولكن يجب التنبيه إلى أنّ الديمقراطية الليبرالية لا تعني الليبرالية الاقتصادية التي تقلّل من دور الدولة وتقوّي دور القطاع الخاصّ على حساب العدالة الاجتماعية.