ميديا – الناس نيوز ::
النهار الدولي – سمير التقي – في لحظة وجودية حاسمة، يقف مشروع الدولة السورية مجدداً على شفير الهاوية، لحظة تنذر بزوال الكيان السوري، لا قدّر الله، لتتحول البلاد إلى جغرافيا للفشل والتفكك، على غرار ما جرى في الصومال وأفغانستان والسودان والبوسنة وألبانيا.
البرجوازية السورية: أوجٌ لم يُستثمر
في خمسينيات القرن الماضي، بلغت البرجوازية السورية ذروة حضورها الاقتصادي والاجتماعي. لكنها، رغم ذلك، كانت برجوازية هشّة، هجينة، مترددة، والأهم من ذلك أنها لم تُدرك ذاتها كطبقة، ولا مصالحها كقوة منتجة.
لقد عجزت عن تشكيل أحزاب سياسية تعبّر عنها، أو صياغة مشروع وطني تقدمي جامع، يتجاوز قوى الماضي، ويوحّد البلاد، ويؤسس لمسار تنموي حقيقي، وسياسة خارجية وطنية تحفظ استقرار البلاد وتنميتها.
صعود العقائد وانحسار الوطنية
تزامن حضور البرجوازية مع تصاعد الأحزاب العقائدية في الريف والمدينة، التي هيمنت عليها شرائح أغنياء الريف وفقراء المدن، فيما انغمست هذه الأحزاب في مشاريع “ما فوق وطنية”، تراوحت بين وهم الخلافة الإسلامية، والقومية العربية، والقومية السورية الكبرى، والأممية الشيوعية.
وفي لحظة فرار من الخوف من الشيوعية، وبعدما اجتاح العقائديون شوارع دمشق وحلب، تخلّت البرجوازية السورية عن مسؤوليتها، وسلّمت السلطة للناصريين والبعثيين، الذين نادوا بالوحدة مع مصر. وبعد فشل الوحدة عام 1961، أعادت تسليم البلاد لمن تبقى منهم، فانتقلوا إلى شعارات الاشتراكية وتأميم الصناعات، ورفعوا راية “تحرير فلسطين”.

كان ثمة طريقان للتنمية… كلاهما في مأزق
كانت الدول المستقلة حديثاً أمام خيارين للتنمية:
- الرأسمالية الطبيعية والعفوية.
- أو ما سُمّي بـ”الطريق اللا-رأسمالي” الذي دعا إليه الاتحاد السوفياتي كبديل تنموي “سريع”.
لكن النموذج السوفياتي نفسه لم يكن شيوعياً حقيقياً، ولا رأسمالياً تقليدياً، بل كان نظام رأسمالية دولة احتكارية، فاسدة، لا تعيش دون ريعٍ سهل. وعلى شاكلته، غطّى النظام السوري عجزه بمزيد من “البلطجة” الإقليمية: من نكسة 1967، إلى حرب 1973، إلى اجتياح لبنان، ثم التحالف مع صدام حسين بعد غزو الكويت، مدعوماً ببعض النفط السوري لاحقاً. - ومع تسليم بشار الأسد للدور الإقليمي السوري إلى المشروع الإيراني، وقطع روابطه العربية، لم يتبقَ أمامه سوى الارتماء في أحضان روسيا ثم إيران.
“عودٌ على بدء”… بل أسوأ
بسقوط الأسد، سقطت معه دولة البعث وجيشه، وعادت الشام إلى نقطة البداية، بل إلى ما هو أسوأ بأضعاف. لقد خسرت سوريا ثمانين عاماً من تاريخها، وبعدما نُخرت البنى الإنتاجية والاجتماعية في الريف والمدينة، تفشى الفساد، وتحللت علاقات العمل، وانهارت القاعدة المادية والمجتمعية للإنتاج، وساد الجوع والفقر المدقع.
وفي غياب قوة إنتاجية حقيقية، صعدت الزعران والرعاع وحراس المعابر، يفرضون تعسفهم وقوانينهم وأعرافهم وقيمهم، لتعود البلاد إلى ما يشبه حالتها بعد سقوط الدولة العثمانية.
عنفٌ باسم الدين… وحقد طائفي - فبعد أن كانت شرعية الانقلاب على المدينة عام 1963 قائمة على الاشتراكية وتحرير فلسطين، باتت بعض المنابر الدينية اليوم تسعى لفرض شرعية دموية طائفية، تُحرض على تقاليد الإسلام الحضري السوري المنفتح، وتهاجم التصوف والأشعرية، وتسعى لفرض رؤيتها السلفية المتشددة، من تحريم التراويح والمولد النبوي الشريف، إلى حجب المرأة عن الحياة العامة.
لكن سوريا، الدولة والمجتمع، ترفض أن تختزل إلى مشايخ ومطارنة وزعامات أحياء. إنها وطن مدني يقوم على الأحزاب والنقابات والتضامنيات المدنية، ولا هي لا تُدار بمنطق “المجالس المليّة”.
من المصالحة إلى الاستسلام
في موازاة ذلك، تجري مصالحات مع رجال الأسد الغارقين في دماء السوريين، علّهم يستعيدون أدوارهم السابقة في نهب البلاد. ديون هؤلاء للدولة تفوق أضعاف ممتلكاتهم، وها هم اليوم يدخنون السيجار في أروقة “الفورسيزونز”، محاطين بحراسهم ودبلوماسييهم.
وكما تزيح العملة الرديئة العملة الجيدة، يشتكي رجال الأعمال المنتجون من إغراق السوق بالبضائع الرخيصة، ويهددون بإغلاق معاملهم والرحيل، بعدما صمدوا طوال سنوات البعث.
هكذا، تُغتال آخر فرص استعادة البرجوازية الوطنية المنتجة من الخارج.
سوريا على مفترق مصيري
أمام هذه التحديات، تقف سوريا دولةً وسلطةً ومجتمعاً، وتواجه البرجوازية الوطنية المنتجة خاصة، استحقاقات مصيرية، سيكون الفشل في مواجهتها، مأساة وجودية لسوريا.
الطريق الأول: إعادة إنتاج الفساد
طريق الميليشيات والبلطجية، المتحالفين مع الرأسمالية الطفيلية والأوليغارشية الدولية، يعيد إنتاج النظام السابق ذاته وبلغة جديدة. إنه اقتصاد ريعي غير منتج، قائم على المعونات والاقتصاد الأسود واقتصاد الظل. لكن هذا الطريق لا مستقبل له، خاصة مع انهيار المشروع العقائدي للإسلام الراديكالي وفقدانه للموارد. ذلك انه في الداخل، لم يتبقَ ما يُنهب، وفي الخارج يتقدم قطار السلام الإقليمي بلا توقف، ولن تجد في هذا السيناريو أية سلطة في سوريا مجالاً للبلطجة الإقليمية، لن تجد الا الاستسلام للتبعية المطلقة لقوى إقليمية لا ترى فيها سوى منصة انكشارية للنفوذ الاقليمي.
الطريق الثاني: دولة البرجوازية الوطنية
الخيار الأصعب والأبقى هو قيام دولة مدنية تقودها البرجوازية الوطنية المنتجة، نقيض دولة الفساد والميليشيات. دولة تستند شرعيتها إلى توافق وطني حر، وتستثمر في المستقبل لا في الحقد الطائفي ومآسي الماضي، وتؤسس لنظام لا مركزي تعددي، يُعلي من قيمة الإنتاج والاستثمار، ويواجه الطفيليين.
يفتح هذا الطريق أمام سوريا أبواب الاندماج في المشروع الحضاري المتكامل لدول الخليج العربي.
الكلمة الفصل للبرجوازية
سيكون على السيد أحمد الشرع أن يحسم خياره قريباً: إما الانحياز للمشروع الوطني الجامع، وإما البقاء في صف الميليشيات واللصوص.
وبغض النظر عن خيارات السلطة الحالية، يترقب السوريون أن تنتصر البرجوازية الوطنية العريقة المنتجة على مخاوفها الفطرية، وأن تتقدم إلى صدارة المشهد الوطني، لتقود البلاد نحو مستقبلها. عندها فقط، يُبعث الأمل السوري من آخر النفق.