ميديا – الناس نيوز ::
مجلة المدية ::
قبل أيام نشرت بعض مواقع التواصل الاجتماعي بيانا صادرا من مجموعة سورية مجهولة، أطلقت على نفسها اسم “حركة 10 آب”، ناشدت الرئيس االسوري بشار الأسد وطالبته بإجراء إصلاحات فورية على المستويات الاقتصادية والمعيشية والخدمية، رافضة مبدأ العنف أو التظاهر “كي لا تعاد تجربة ما حدث في سوريا سنة 2011″، وكي لا يقال من الموالين للحكم، إنها “مدعومة من قبل أي جهة خارجية”.
كان البيان عبارة عن نسخة إلكترونية، ما جعل كثيرين يشككون بمصداقيته ويعدونه مجرد “تنفيس” من قبل السلطات السورية للحد من الاحتقان العميق الذي تعيشه البلاد بسبب الانهيار الاقتصادي الكبير منذ مطلع هذا العام، وانحدار سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي إلى 14 ألف ليرة (كان 46 ليرة في 2010).
لكن بعد يوم واحد من نشر البيان إلكترونيا، عثر على منشورات مطبوعة في شوارع بانياس وجبلة وطرطوس واللاذقية، وممهورة بتوقيع “حركة 10 آب”، كتبت فيها جملة واحدة فقط: “الشعب السوري بكافة طوائفه يقول كفى للذل: مستقبل الشعب السوري ليس لعبة بأيديكم”.
كل المدن التي رميت فيها المنشورات كانت ذات غالبية من العلويين. أيضا، تقع على بعد كيلومترات من القاعدتين الروسية الجوية في اللاذقية والبحرية في طرطوس، على الساحل السوري.
وتزامن ذلك، مع صدور بيان عن مجموعة أطلقت على نفسها اسم “حركة الضباط العلويين الأحرار”. أصحاب البيان الثاني قالوا إنهم يتحدثون من وسط قرى الساحل السوري وتحديدا من القرداحة، مسقط رأس عائلة الرئيس حافظ الأسد.
لا نعرف إن كان بيان “حركة الضباط” مرتبطا ببيان “حركة 10 آب”، علما أن الأول جاء منظما ويدعو إلى خروج إيران من سوريا وإقامة “عدالة انتقالية” ومحاسبة مجرمي الحرب وما وصفهم بتجار “الدماء والدين،” في وقت كان بيان “10 آب” مكتوبا بأسلوب رديء، ليست فيه مطالب سياسية واضحة.
ولا نعرف أيضا إن كانت هذه البيانات قد صيغت فعلا من الداخل، كما يزعم أصحابها، أم إنها كتبت من الخارج مثل كثير من البيانات السابقة. القاسم المشترك الوحيد بين البيانين أنهما لم يتعرضا لرئيس الجمهورية بشكل مباشر، وأنهما كانا موجهين إلى الطائفة العلوية، وهي حاضنة النظام التي كانت تشكل قبل عشر سنوات ونيف قرابة 12 في المئة من عدد سكان سوريا.
وقبل أيام من صدور بيان “حركة 10 آب” ظهرت الناشطة لمى عباس في فيديو مسجّل وطلبت من الناس النزول إلى الشارع والتظاهر ضد الوضع الاقتصادي والمعيشي. وعلى الرغم من كونها “علوية”، و”موالية”، إلا أن السلطات الأمنية حاولت اعتقالها، ولكنها طردتهم لعدم حصولهم على إذن من المحكمة، وسجلت محاولة الاعتقال ونشرتها على “فيسبوك”.
والعلويون هم طائفة صغيرة منبثقة عن المسلمين الشيعة، كما جاء في فتوى من الإمام موسى الصدر في لبنان سنة 1973. كان لهم أعيان ومرجعيات دينية وسياسية، ظهر معظمهم في زمن الاحتلال الفرنسي، من آل كنج والعباس وخير بك ومخلوف وغيرهم، ولكن معظم هؤلاء حيّدوا عن المشهد مع وصول الفريق حافظ الأسد إلى الحكم سنة 1970، باستثناء آل مخلوف نظرا للمصاهرة بينهم وبين آل الأسد
وطوال فترة حكم الأسد الأب، كان هو المرجع الأول والأخير لكل العلويين، لا يضاهيه أحد ولا ينافسه أحد باستثناء شقيقه رفعت، قائد “سرايا الدفاع” الذي تم عزله ونفيه خارج البلاد بعد محاولة انقلاب فاشلة قام بها سنة 1984. بقي رفعت منفيا حتى سنة 1992، عندما عاد للمشاركة في جنازة أمه، ليعود ويغادر مجددا في السنوات الأخيرة من حكم أخيه. وعند ظهوره في مسقط رأسه بالقرداحة سنة 1992، تجرأ بعض العلويين بإطلاق عيارات نارية ترحيبا بمن كان يعرف بلقب “القائد رفعت”. وظن آخرون أنه سيكون رئيس سوريا المستقبلي بعد وفاة نجل حافظ الأسد البكر باسل عام 1994، ولكن تسلم بشار الأسد الرئاسة في سنة 2000 قطع الطريق عليه وعلى مناصريه.
ومع مرور الوقت نُسي رفعت في قرى العلويين، مع تقدمه بالسن وتراجع قدرته على دفع الأموال الطائلة لكسب الولاء. وأكبر دليل على تراجع نفوذه وقدرته على التهديد السماح له بالعودة إلى سوريا عام 2022، ليقضي سنواته الأخيرة في صمت، بعيدا عن أي نشاط سياسي أو عسكري أو حزبي.
ومنذ تولي بشار الأسد الحكم قبل 23 سنة، تنامى دور ابن خاله، رجل الأعمال رامي مخلوف، الذي أصبح هو الداعم الرئيس للطائفة العلوية، وأكبر “مشغل” لأبنائها، إما في شركة “سيرياتيل” التي كان يملكها وإما في مشاريعه الاقتصادية في دمشق وغيرها، وصولا إلى إنشاء “جمعية البستان” الخيرية قبل الحرب والتي قامت بتوظيف آلاف العلويين قبل تحويلها إلى ميليشيا عسكرية، حمل أعضاؤها السلاح للدفاع عن النظام ابتداء من سنة 2011.
كبر دور رامي مخلوف بشكل كبير جدا على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وصارت له مؤسسات اقتصادية وازنة، مع ميليشيات مسلحة وحزب سياسي قام بشرائه، وهو “الحزب السوري القومي الاجتماعي” الذي عرف عن آل مخلوف الانتماء إليه تاريخيا.
وفجأة ومن دون مقدمات مسبقة، تقرر القضاء على ظاهرة رامي مخلوف سنة 2020 وتمت مصادرة أمواله وحل حزبه، مع مصادرة “جمعية البستان”، ما حوله من رجل أعمال ثري ونافذ إلى مجرد شخصية “فيسبوكية”، يظهر بين الحين والآخر لمخاطبة جمهوره بتسجيلات فيديو، كثرت فيها المواعظ الدينية والأخلاقية وقل المضمون الفعلي أو القدرة على التأثير.
ومن يومها، شهدت مناطق العلويين انهيارا اقتصاديا رهيبا، بعد رامي مخلوف، وعدم قدرة أي شخص على ملء الفراغ المالي الذي جاء نتيجة غياب رامي مخلوف.
في المقابل، تعزز دور أسماء عقيلة الرئيس السوري، وباتت ترافق الرئيس في جولاته الرسمية في عدد من الدول العربية، اضافة الى حضور الاعلامي البارز خلال تخرج ابنها في موسكو، من احدى الجامعات الروسية.
كما باتت مؤسسات الدولة بجوانبها المختلفة، حزب “البعث” والوزارات، تتعاطي مع عقيلة الرئيس باعتبارها “جزءا قياديا من مؤسسة الرئاسة السورية”، حسب تعبير دبلوماسي عربي في العاصمة السورية.
وبنت، أسماء التي تنحدر من عائلة سنية من حمص وسط سوريا مهاجرة في بريطانيا، شبكة نفوذ سياسية واقتصادية وحكومية واسعة. كما كانت باتت تقوم في شكل منفرد، بجولات ميدانية في مناطق مختلفة كانت اخرها واحدة في الريف العلوي، الذي تضرر من الحرائق.
الحرب ألقت بظلالها على كل السوريين بما في ذلك العلويون القابعون في حالة فقر قديمة ومستفحلة، فقد قتل منهم الآلاف منذ بدأت الحرب، دون إجراء إحصاء لتحديد عدد القتلى. في المدن والقرى السنية، حصدت الحرب أرواح آلاف الشباب والنساء والعجائز والأطفال كما جرى تهجير نصف السكان خارج بيوتهم وحوالى ثمانية ملايين لاجئ خارج البلاد.
أما عند العلويين فكان عدد القتلى في صفوف الشباب فقط، ما بين 18-40 سنة من العمر، وهم المنتسبون إلى الجيش أو ما عُرف بـ”القوات الرديفة”، من ميليشيات وكتائب مسلحة. لا توجد قرية علوية اليوم إلا وفيها بيت موشح بالسواد، ولا عائلة علوية، كبيرة كانت أم صغيرة، إلا وفقدت ولدا أو أكثر.
مع ذلك ظلّ العلويون موالين للأسد، خوفا على أنفسهم وأولادهم من مستقبل غامض في حال رحيله، ولم ينسوا قط أن إحدى أولى هتافات “الثورة” سنة 2011 كانت “المسيحية على بيروت والعلوية عالتابوت (النعش)”. عبارة يشكك معارضون في أصالتها وسط حديث عن استخدامها وتسويقها لشد عصب الموالين للنظام.
ويعتقد موالون أن فصائل المعارضة “فشلت في طمأنتهم، لا بل إنها زادت من تخوفهم لكثرة التهجم عليهم كطائفة”، سواء من “الإخوان المسلمين” أو غيرهم من التنظيمات الإسلامية المتطرفة، مثل “جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام اليوم) أو “داعش”.
وهذا ما يفسر قلة الشخصيات العلوية في المعارضة ورفض شخصيات علوية كانت معروفة بمواقفها النقدية قبل العام 2011، الدخول في المعارضة.
لكن السواد الأعظم من العلويين وجدوا أن حالتهم اليوم تكاد أن تكون الأسوأ في سوريا، حيث لم تأتهم أي مكافأة على دعمهم للنظام الحاكم في سوريا، بل اعتبر ذلك “واجبا وطنيا” وقيل إنهم يحملون السلاح دفاعا عن أنفسهم كطائفة، وإلا سيتعرضون لإبادة جماعية من قبل المعارضة.
كما أن وضعهم المعيشي تراجع كثيرا في السنوات القليلة الماضية، في ظلّ تهاوي الليرة السورية التي وصلت قيمتها إلى 14 ألفا مقابل الدولار، وهي الأدنى منذ اندلاع الحرب، ما جعل من راتب الموظف الحكومي- علويا كان أم مسيحيا أم سنيا- لا يكفي لتأمين أساسيات الحياة، من طبابة ومدارس وتدفئة وكهرباء.
وفي أرجاء الجغرافيا السورية زادت ساعات التقنين الكهربائي بشكل كبير جدا. لكنها بقيت ثابتة بدمشق، تتراوح ما بين 3 ساعات قطع و3 ساعات وصل إلى أربع ساعات قطع مقابل ساعتي وصل.
أما في مناطق العلويين، فكانت ساعات التقنين تتجاوز اليوم الكامل في أشهر الشتاء البارد والصيف الملتهب. وفي المقابل، لا مجال آخر لهم لكسب العيش: لا عمل في قراهم، لا جامعات، ولا أمل في مستقبل أفضل.
كل هذا بقي ضمن المقبول بالنسبة لهم، ولكن ما بدأ العلويين يرفضونه هو تحميلهم وزر الأوضاع التي آلت إليها البلاد، وبأنهم مسؤولون جمعا، عما حل بها من مصائب.