د. غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
قد تبدو السينما الجزائرية من بين الأكثر حظاً في المنطقة العربية، من خلال تواجدها على قائمة الحائزين على جوائز كبرى في السينما، بين الأوسكار والغولدن غلوب (فيلم Z، سنة 1970 وهو اقتباس لرواية يونانية لفاسيليس فاسيليكوس تحمل الاسم ذاته وأخرجه كوستا غافراس، امتلك فيه الطرف الجزائري الجزء الأكبر من الحقوق الإنتاجية)، إضافة للسعفة الذهبية لمهرجان كان 1975، عن فيلم “وقائع سنين الجمر” الذي أخرجه محمد لخضر حمينة وكتب السيناريو الروائي رشيد بوجدرة.

كما عرفت السنوات الأخيرة حضور الكثير من الأسماء الجزائرية في ترشيحات مسابقة الأوسكار، دون أن يعبر أحدها إلى المراحل النهائية كـ “إلى آخر الزمان” لياسمين شويخ، “هيليوبوليس” لجعفر قاسم، وغيرها من الأعمال التي استطاعت بتميزها أن تكسر حالة الجمود التي يعيشها الإنتاج السينمائي في البلاد منذ عقود طويلة.
يذكر الباحث والناقد السينمائي الجزائري الكبير أحمد بجاوي في كتاب جامع عنوانه “سنوات بومدين” أن ثاني رؤساء البلاد (هواري بومدين) كان مولعاً شخصياً بفن السينما، وكان من متابعي البرنامج الذي يعده بجاوي على التلفزة الوطنية، وربما ذلك ما جعل النوادي السينمائية تعيش أزهر فتراتها سنوات حكمه، وكذا قاعات السينما، والتي ورث عدد لا بأس به منها عن الفترة الاستعمارية، رغم أن المتابع للأفلام التي صدرت في تلك المرحلة سيحس تأثير الالتزام الثوري والاشتراكي عليها، ولكن الأمر ينسحب على جميع المنتجات الثقافية لتلك المرحلة كالأدب والموسيقى.
عرفت السينما الجزائرية أحلك مراحلها خلال سنوات التسعينات حين صدر قرار بغلق الكثير منها، بعد أن صارت تابعة لوزارة الداخلية عوض وزارة الثقافة، والغريب أن أغلبها لا يزال مغلقاً بعد ثلاثين سنة.

قليلة هي الأفلام الجزائرية ذات الصبغة التجارية، فقد ظل الالتزام والعمق سمة أهم الأعمال على قلتها، وكذلك بالنسبة للشأن النسوي.
وقد اشتغلت الكثير من النسوة الجزائريات المثقفات على أعمال سينمائية ولم تكن آسيا جبار استثناءً، وهي التي أنجزت أفلاماً جيدة خلدت فيها الكثير من تراث البلاد.
لكن عرف العقد الأخير تحولاً في الخطاب النسوي السينمائي الجزائري، وإن ظل في الواقع حبيس مواقع التواصل الاجتماعي، والمقالات والتحليلات التي ينشر معظمها خارج البلاد، من بين أهم سماته هو نضوج هذا الخطاب، وتركيزه على النسوة وهمومهن، والحلول التي يبتكرنها، ومحاولة تجاوزهن لمعاناتهن من أجل حياة أفضل.
ومن بين هذه الأفلام: فيلم “في سني ولا زلت أتخفى حتى أدخن”، “قنديل البحر”، و”بابيشة”.

صدر فيلم “بسني ولا زلت أتخفى حتى أدخن” سنة 2017 وهو إنتاج مشترك جزائري-فرنسي-يوناني، أخرجته ريحانة أوبرماير.
تحكي قصة الفيلم الذي يمتد لتسعين دقيقة، قصة جزائرية تسعينية (نسبة لعشرية التسعينات من القرن الماضي)، تدور داخل حمام تقليدي تجتمع فيه نسوة كثيرات بعضهن تقليديات وأخريات أكثر تحرراً، في جزائر درجت التفجيرات وأخبار القتل ضبط إيقاع يومياتها.
نكتشف مع النسوة الكثيرات القصص التي تروى خلف الجدران المغلقة، عن علاقات النسوة بأزواجهن، عن بحث أخريات عن مزيد من الحريات ثم قصة أخت أحد الإرهابيين التي يأتيها المخاض، بعد أن حبلت خارج إطار الزواج، وهي داخل الحمام الشعبي.
تحاول النسوة إخفاءها وحمايتها قبل أن ينكشف سرها، من خلال امرأة تعمل لصالح الظلاميين، وهي التي تدل أخ الضحية وأصدقاءه الذين يأتون في أثرها لينتهي الفيلم بمقتلها.

ثاني الأفلام النسوية الجزائرية عنوانه “قنديل البحر” أخرجه المخرج الفرانكو- جزائري داميان أونوري، وكتب السيناريو برفقة بطلة الفيلم عديلة بن ديمراد.
يحكي الفيلم الذي لا يتجاوز الأربعين دقيقة، قصة أم شابة تنزل للشاطئ لقضاء وقت برفقة عائلتها، قبل أن تجد نفسها ضحية لاعتداء جماعي من طرف الشباب داخل الماء.
عملية الاعتداء ستنتهي بمقتلها، لكن لا أحد سيجد جثتها، بل الجثث الوحيدة التي سيلفظها الموج، هي جثث من اعتدوا عليها، ليتضح أنها تحولت لقنديل بحر يطلق لسعات سامة وقاتلة.
“بابيشة”، هو فيلم آخر نسوي وقعته مونيا مدور، صدر سنة 2019، وترشح للقائمة الطويلة لجوائز الأوسكار دون أن يفوز بإحداها. لم يثر الفيلم جدلاً بقدر ما أثاره أمر منعه من العرض، ولا أحد يعلم السبب حتى الآن.
يغوص الفيلم في قصة أربع طالبات يقطنّ السكن الجامعي، في عز الأزمة الأمنية التي عرفتها البلاد سنوات التسعينات، يحاولن الاستمتاع بحياتهن رغم كل الظروف، يتحدين حالة الهلع المحيطة، هن اللواتي سيعشن اعتداءات مسلحة، وطلبات متكررة من المتطرفين بضرورة ارتداء الحجاب، وهجر مقاعد الدراسة.

تبدع مونيا مدور في إعادة خلق تلك الأجواء المرعبة، انطلاقاً من مقتل صحفية ومحاولة أختها الانتقام لها من خلال تحدي آلة الظلام بالإبداع، من خلال تحضير عرض أزياء سيتصدى له جنود الموت.
الأفلام الثلاثة التي أنجزت في فترات متقاربة تبرز تأثير عشرية الدم في الحاضر الجزائري، على النساء الجزائريات خصوصاً، هن اللواتي لا يزال الحديث عما تعرضن له خلال تلك الفترة يدخل في خانة العيب، واللواتي توجب عليهن دفع فاتورة تلك السنوات مضاعفة، وبعنف مضاعف، إن غاب في ظاهره كما هو الحال في فيلم “قنديل البحر” فأثره واضح كالاعتداء الذي حصل لبطلته نفيسة، أما ردود الفعل الجذرية كلسعات القنديل فلا تزال بعيدة المنال.
د. غادة بوشحيط – باحثة ومترجمة – الجزائر .

