أنور عمران – الناس نيوز ::
“يا مدقدق بن عمي” عندما أسمعها بصوت سميرة توفيق.. أتخيلُ أني أدور حتى أدوخ داخل جرس نحاسي كبير، بدوية تتغزل ببدوي لديه آلاف الوشوم، وما يهمني ليس الكلمات فقط، وإنما أضيف إليها المغنية التي زادت سحرها على سحر المعاني، المهم سميرة … .
أقدم ذكريات طفولتي ترتبط بها.. آلة التسجيل تصدح بأغنية “يا هلا بالضيف ضيف الله” وأبي على الباب يستقبل ضيوفه، لم أستطع حينها أن أفسر هذا التواطؤ الغريب بين أبي وسميرة توفيق.. وأستطيع أن أقول إن كل جيل أبي كان يعشق سميرة توفيق، لكن أبي كان يفعل أي شيء من أجل عينيها، في شبابه باع دونمين من أرضه ودفع لها 1000 ليرة سورية لكي يبوسها من وراء الزجاج، وفي شبابه المبكر أيضاً، أخرج كاسيت القرآن الموصول من آلة تسجيل جدي، والذي كان من وجهاء القرية حينها، إلى مكبرات الصوت في الجامع، ووضع بدلاً منه كاسيت سميرة توفيق، ولأن جدي كان في حقوله بقيت القرية تستمع إلى سميرة توفيق ساعة كاملة من إذاعة المسجد… .
منذ سنوات في جلسة حوارية لصالح تلفزيون سوري مع رفيق سبيعي “أبو صياح” حدثني عن شباب سميرة وبداياتها، أما الممثل الفلسطيني الكبير المرحوم محمود سعيد فقد حدثني في جلسة خاصة أكثر مما يتمنى أبي أن يسمعه… .
ودائماً عندما يدور الحديث عن سميرة توفيق يقفز في قلبي ألف حصان، تصير روحي جرساً هائلاً… وبالمناسبة، لاحقاً باع أبي كل ما تبقى حقوله، ولم يبقَ ما يورثني إياه غير الغرق اللامتناهي في نحاس سميرة توفيق…
ولد أبي عام 1940 وتوفي عام 2014، وأكثر من سمعته يتحدث عنهم بحب خلال حياته، عدا عن أبيه، هم “جمال عبد الناصر، سميرة توفيق، ومحمد علي كلاي” وأستطيع أن أقول مرةً أخرى من خلال معرفتي بجيل أبي أن معظمهم يشاركونه عشق هذا الثلاثي.
سميرة التي تغني المفردات البسيطة التي يقولونها ويعرفونها ويشعرون بها تماماً، وهي الفن والجمال الغائبان عن تفاصيل الحياة القروية القاسية، وربما ما أعجبهم في ” كلاي” ليس فقط قوته ونجوميته، وإنما اعتناقه الإسلام، وبذلك باتوا يشعرون أنه واحد منهم، أما “جمال عبد الناصر” فقد نجح أن يسوق نفسه بالاعتماد على خطابيته ومنبته الطبقي.
الحاجة إلى بطل موضوع شائك تطرق إليه كثيراً النقاد الروائيون ومنظرو الأدب في العالم، ولأن أبي وأغلب أصدقائه وجيله كانوا شخصيات واضحة الملامح بسيطة وبعيدة عن التعقيد، كان يلزمهم أبطال يتكئون عليهم كي تُبرر مغامراتهم الصغيرة، وبالطبع كان من الضروري أن يكون الأبطال بمثل وضوحهم وصفائهم، وربما يمثل صوت سميرة النحاسي كل النداءات التي سمعوها في حيواتهم: نداءات الحسرة والتفجع والحرمان وحتى الفرح، محمد علي كلاي كان حلمهم في توجيه ضربة قاضية لكل العلل التي تصادفهم يومياً وفي كل مناحي الحياة، أما جمال عبد الناصر فهو السؤال المحير الذي لم أجد له جواباً، وأذكر أنني شاهدت منذ سنوات فيلماً وثائقياً يتحدث عن مزارات الأولياء في مصر، واللقطة التي أدهشتني فعلاً هي امرأة تتمسح بقبر جمال عبد الناصر.
قد أُقنع نفسي بهذه التفسيرات لأجد حلاً مع جيل أبي، ولكن لا أستطيع بعد هذه السنوات واطلاعي المتواضع على الموسيقى العالمية، وصداقتي الشخصية مع العديد من الفنانين والكتاب والموسيقيين، عدا عن عملي أحياناً في هذا المجال، لا أستطيع أن أُفسر بوضوح عشقي الغريب لصوت سميرة توفيق، ربما مازلت ذلك الطفل الذي يتعلق بثوب أبيه ويرى ما يراه، أو ربما يتعدى الأمر ذلك إلى حيث تصير سميرة رمزاً لجيلٍ كامل، احتفى بقهره ودموعه ومن باب هذا الاحتفاء كان يدخل الفن.