ريما بالي – الناس نيوز ::
“قد أتحوّل قريبًا إلى طائر فلامنكو” (الفلامنكو طائر يقف على قدم واحدة).
هذا ما كتبته الصحافية كريستينا عاصي إلى أحد أصدقائها، ردًا على سؤاله عنها وعن وضعها الصحّي الحَرِج إثر الإصابة البليغة التي تلقتها في قدمها من نيران الاحتلال، في أثناء تغطيتها الأحداث الأخيرة في الجنوب اللبناني، وأضافت:
“خسرت أعزّ أصدقائي، وربما قدمي من الركبة فما دون”.
وأعزّ أصدقائها ذاك، هو المصوّر الصحافي عصام عبد الله، الذي استشهد في الحادثة ذاتها بينما كان يحاول حماية زميلته.
كريستينا وعصام ليسا الضحيتين الوحيدتين من الصحافيين، فقد استشهد حتى نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 73 صحافيًا في حرب غزة، وأصيب العشرات.
وبتوسيع مساحة الرؤية، نجد حسب تقرير حقوقي أصدرته “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” في الشهر الخامس من العام الجاري، أن 715 صحافيًا قُتلوا في سوريا منذ العام 2011، كما أفاد تقرير نُشر في نهاية عام 2022 لـ “مراسلون بدون حدود”، أن 1700 صحافيًا قُتلوا في العالم خلال العشرين عامًا الأخيرة، بمعدل 80 صحافيًا في العام.
هل يخطر في بالنا ونحن نقرأ الأخبار في الصباح في أثناء ارتشاف قهوتنا، أو ونحن نسمعها من الراديو في سياراتنا، أن هذا الخبر الذي يمرّ علينا ونمرّ عليه بسرعة وخفّة، هو فعليًا خبرٌ مغمّسٌ بالدم؟!
ألم نسأل أنفسنا يومًا، لِمَ هي باهظةٌ إلى هذا الحدّ، تكلفة الحقيقة؟! إن كانت وظيفة الصحافيين والإعلاميين هي مجرّد نقل الخبر من مكان الحدَث إلى الناس، فلماذا يُعاقبون إلى درجةٍ تصل إلى سلبهم حيواتهم؟ تلقائيًا تأتينا الإجابة، وبكل بساطة، لأن معرفة الناس الحقيقة، قد تهزّ عروش بعض الحُكّام، أو (بعض السلطات بأنواعها)، أو قد تقتلعها من جذورها، فتُطيّرها في الهواء، نعم، هذا السبب الذي يجعل هؤلاء الحُكّام/السلطات يعلنون حروبًا جديّة على الصحافة، ولا يقتصر الأمر على محاربتها فقط، بل يمتدّ إلى المحاربة بها أيضًا، واستعمالها هي ذاتها كسلاح مهمّ في معاركهم، سواءً كانت ضدّ شعوبهم، أو ضدّ منافسيهم، أو ضدّ شعوب ودول أخرى.
أشهر الأمثلة التاريخية على ذلك، استعمال ألمانيا الإعلام كسلاحٍ حربي رديف وحاسمٍ للمعارك في الحرب العالمية الثانية، حيث عدّ وزير الدعاية والإعلام “جوبلز” الراديو سلاحًا حربيًا، واعتمد على المنشورات والإذاعة ومكبّرات الصوت بشكل يُثير الغرائز الأولية للفتك والتدمير، وثمّة مقولة تفيد أنه لولا الراديو لانْهزمَ هتلر في حربه.
وقد حذتْ حذوَ هتلر لاحقًا، كل ديكتاتوريات العالم الغربي والشرقي والعربي، والأمثلة أكثر من أن تُحصى.
وهكذا، فتحت الأنظمة الاستبدادية جبهتين فيما يتعلّق بالإعلام؛ الأولى لِنسفِ كل مصدرٍ قد تتسرّب منه الحقيقة، والثانية لِفَبركة ونشرِ أخبار تناسب مصالحها.
لكن تلك السياسة التي بدت سهلةً في القرن الماضي، بدأت تترنّح مع دخول القرن الجديد، بسبب الانفتاح العالمي الذي كرسّه اختراع شبكة الانترنت ووسائل التواصل، الإنسان لم يصبح أذكى لكن مصادر تلقّي الحقيقة صارت أكثر وأسهل وأسرع، بحيث صار من الصعوبة بمكان فبركة حقائق لا أساس لها من الصحة، فالمُتلقي الفضولي سيُطالب بإثباتاتٍ ووثائقَ وصور، سرعان ما ستقوم جهات كثيرة بدحضها إن كانت مزيفة بالأدلة القاطعة المرئية والملموسة، قتلُ الصحافيين وإخفائهم لم يعُدْ كافيًا، في ظلّ وجود جحافل من الجيوش الالكترونية التي تحارب في جبهات متفرّقة ولأسباب مختلفة.
لذا، صرنا نشهد اليوم نقلةً نوعيةً في سياسة الإعلام المُرتزَق، سياسة جعلت من “الحقيقة” شعارًا لها كي تتجنّب فخاخ المشككين. الحقيقة؟! نعم، ولكن، أية حقيقة؟ حسنًا، إنه بالتحديد جزءٌ من الحقيقة، الجزء المناسب من الحقيقة، يُنقل إلى الجماهير، بكل “أمانة” بمعزل عن الأجزاء الأخرى!! ويُصوَّر وكأنه الحقيقة الوحيدة، والحقيقة الكاملة.
دعمًا لهذه الفكرة، ذكّرني أحد الأصدقاء بقصّة قديمة، عن حكيم هندي أراد أن يُلقّن أميرًا شابًا يدّعي سعة المعرفة درسًا مفيدًا، فطلب منه أن يُحضر فيلًا ومجموعةً من العميان، ليست لديهم أية معرفة مسبقة بهذا الحيوان الضخم، طلب الحكيم من العميان أن يتلمّسوا الفيل، ثم أن يقوموا بوصفه، أحدهم قال: الفيل عبارة عن حبل طويل، أما زميله فقد وصفه بأنه جدار كبير مَكسوٌّ بالجلد والوبر، أعمى آخر قال: هما يكذبان فالفيل هو مجرّد جذع، فقاطعه الأخير قائلًا: لا، والله فما الفيل إلا أفعى غليظة لينة تنتهي بفتحة.
مَنْ كذبَ منهم ومَنْ صدق؟ في الواقع، لم يكذب أي واحد منهم، ولكن في الوقت ذاته أحدهم لم يقل الحقيقة، إذ لم يصف الفيل كما هو، لقد وصفوا فقط ما تحسّسوا وما لمَسُوا.
ما نلمس وما نحسّ، وأحيانًا ما نرى ونسمع، ليس إلا جزءًا صغيرًا من الحقيقة، قطعة “بازل” علينا أن نشبكها بكثيرات غيرها، كي تكتمل اللوحة التي تستحقّ أن تسمى بالحقيقة الكاملة، الحقيقة المفيدة.
الصحافيون، هم جامعو قطع “البازل”، منهم مَنْ يفعل ذلك دفاعًا عن حقّ الناس في المعرفة، ومنهم من يُخفيها بإيعازٍ من جهة مموِلة، ومنهم من يبيعها لِمَنْ يدفع سعرًا أعلى، ومنهم مَنْ يدفع حياته ثمنًا لها.
اليوم، لدى كل دول العالم، كل المؤسسات والمنظّمات والشركات، وحتى بعض الشخصيات الشهيرة أجهزة خاصّة مخابراتية وإعلامية، تعمل على تنميق لوحتها الخاصّة بمهارة وحرفية (جمع الأخبار وإعادة تدويرها، تلميع جزئها المفضّل من الحقيقة، وطمس الأجزاء الأخرى).
اللعبة باتت خطِرة، لكن الضوء يظهر دائمًا في نهاية كل نفق، وعزاؤنا اليوم في درجة الوعي التي بلغتها الأجيال الجديدة، بحيث لم تعُدْ تخدعها الفبركات مهما بلغت درجة اتقانها، والدليل على ذلك: التعاطف الجامح لجيل الشباب في كل أنحاء العالم مع فلسطين رغم الضخّ المُستميت الذي تقوم به إسرائيل، لاستدرار شفقتهم ودعمهم في حربها لإبادة شعب غزة.
وإن كان وعي جيل الشباب هو النور الذي يظهر في نهاية النفق، فإن النور الذي يضيء النفق كله، هو تلك الطيور الحرّة؛ طيور الفلامنكو والكناري والحمام والنورس، الطيور الأليفة الكاسرة التي تحلّق بجرأة في الفضاء المُلبّد بدخان الحرب والتخلف والاستبداد، تخسر حياتها، أو أجزاءً من أجسادها، لتجمع أجزاء الحقيقة وتقدّمها للناس كما هي، خدمة للبشرية وللحضارة الإنسانية، وليس خدمة لمصالحَ سوداء أخرى.
وتصدح في مخيّلتي الآن الجملة التي وردت ضمن حوار فيلم The Post لـ سبيلبيرغ: “الصحافة لم توجد لتكون في خدمة الحُكّام وإنما الشعب”.
وأضيف أنا: الإعلام لا يليق به أن يُحكَم، وإنما أن يَحكُم.