د . أحمد برقاوي – الناس نيوز ::
كانت والدتي بديعة محمد أديب الجغليط البسطامي تمتلك ثقافة المظاهرة التي كوّنتها وهي طالبة في دار معلّمات القدس أيام الاستعمار البريطاني، ومارستها حين عملتْ معلمةً في مدرسة الزهراء في مدينتها يافا. واحتفظت بهذه الثقافة بعد لجوئها وتعيينها مديرةَ مدرسةٍ في قرية نوى، فكانت تُخرج التلاميذ والتلميذات في ثلاث مناسبات سنوية: ذكرى صدور وعد بلفور، ذكرى احتلال فلسطين في 15 أيار، وذكرى سلخ لواء اسكندرون. وهي مظاهرات احتجاج ورفض.أجل، المظاهرة كانت تعني لأمّي الاحتجاج. لكن حَدَث الوحدة مع مصر أدخل فكرة الاحتفال الذي تُحضّر له المعلمة المصرية الوحيدة، واسمها فردوس، قبل شهر من تاريخ الاحتفال. وكانت أمّي تتذمّر منها، مما جعلها مرّةً، وفي لحظة غضب شديد، تشتم عبد الناصر أمام المعلمة المصرية، التي كتبت فيها التقرير بشتم عبد الناصر، مما دفع مدير التربية في درعا آنذاك، صلاح الدين الزعبلاوي، للتحقيق معها متعاطفاً، وكان هذا قبل الانفصال. فعوقبت الوالدة بنقلها إلى الحسكة بدءاً من العام الدراسي 61-62، وقد ألغي القرار بعد الانفصال الذي كانت والدتي متعاطفة معه. واستمرّت بمظاهرات في مدرستها السابقة والتي انضمت إليها المدرسة الريفية، وبعض السكّان. ثم وجدت نفسها بعد انقلاب 8آذار مرّة أخرى أمام الاحتفال، الذي تقوم به هذه المرّة ثانوية الإمام النووي بتوجيهات من أمين شعبة الحزب آنذاك، والذي كان والدي. ولكنها لم تكن مشاركة في صناعة هذا الاحتفال. وظلّت تمارس إخراج المدرسة للتظاهر بالمناسبات الثلاث حتى 1966. حيث لم يعُد لأحد سلطة على فعل ذلك. بعد انتقالها لدمشق، عام 1970، أصبحت مديرة مدرسة أسماء العامرية في مخيّم اليرموك، ولكن لا حول لها ولا قوة، في ممارسة نشاط التظاهر، وكانت غالباً ما تتذكّر بحنين أيام التظاهر في القدس ويافا ونوى.
مع الأسدية ماتت المظاهرة الحرّة في سوريا، ماتت مظاهرات الاحتجاجات، واحتفالات الفرح بعيد الجلاء، ووُلدت المسيرات الغنمية، في التظاهرة كنّا نُسقط قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، ونُسقط سلخ لواء اسكندرون، ومع المسيرة نشأت الظاهرة الغنمية التي سميت “بالمسيرة”.
لا أدري مَن ذا الذي اشتقّ اسم المسيرة، والتي منها نشأ قائد المسيرة الأوحد، والذي راحت الحناجر الكاذبة تصرخ في المسيرة: إلى الأبد يا حافظ الأسد.
في المسيرة يسيرالكبش في الأمام ووراءه يسير القطيع المراقَب، والذي يُشاركُ في المسيرة بأمر المؤسسة.
المؤسسات بكل أنواعها من الجامعة إلى المعمل، مروراً بالمدرسة، ودائرة النفوس، و…و…
أرجلٌ تمشي إلى مكان ينتظرها فيه الخطيب المتمجّد، الأرجل لا تسمع، وتصفّق، ولكن ليس لما تسمع!! إنها تنتظر نهاية السير لتتحكّم بأرجلها لتذهب إلى المكان الذي تشاء.
بموت المظاهرة ماتت الحناجر الصادقة التي كانت تصرخ يسقط، ووُلدت الحناجر الكاذبة التي كانت تردّد: بالروح بالدم نفديك يا…، ولم يطلْ بأمّي الوقت حتى فارقت الحياة.
لكنها، وقبل أن تفارق الحياة تحوّل حنينها إلى يافا، وإلى التظاهر، إلى واقع تعيشه كما لو أنه مازال حياً، وإلى المديرة التي مازالت على رأس عملها في لحظات تمرّدها على وعد بلفور وتقسيم فلسطين وسلخ لواء اسكندرون. وكانت تردّد نشيداً قديماً تعلّمته وهي طالبة في القدس والذي مطلعه:
سوريا يا ذات المجد والعزّة في ماضي العهد.
ماتت والدتي وهي لم تعترف بتقسيم بلاد الشام، ولم تعترف بانفصال يافا عن دمشق؛ دمشق التي كان والدها (جدّي) يحمل العائلة صيفاً إليها كل عام.