[jnews_post_author ]
«لو طلب الرئيس بشار الأسد عيني لقدّمتُهما فوراً»… هذا الكلام الصادر مع بداية الثورة السورية، حيث كانت قوات الأسد تفقأ عيون المتظاهرين السلميين، لم تقُله بثينة شعبان أو وليد المعلم أو بهجت سليمان أو علي مملوك أو ذو الهمة شاليش أو شلّة الكاتبين و«المفكّرين» البعثيين أو المُزايدين عليهم من طفيليات النظام الأمني السوري في لبنان.
قاله مطربٌ عظيمٌ وفنانٌ كبيرٌ اسمه وديع الصافي. مطربٌ عبّر عن حبّه لسيّد البراميل باستعداده لمنْحه عينيْه معتبراً أن ذلك أقلّ ما يمكن لردّ جميلِ شخصٍ قدّم دعْماً لبعض الفنانين إبان أزماتهم الصحية.
«الجبلُ اللبناني» الرائع الخالد في الوجدان وديع الصافي هنا ليس استثناءً بين أقران كثيرين له، وكلامُه لا ينْتقص أبداً من فنّه وعَظَمَتِه ورهافةِ حسّه. هو الرجلُ الذي يحلّف العصفورَ بالغصن وفي الوقت نفسه هو الرجل الذي دمج بين سورية وحافظ الأسد قبل ابنه وغنى له «أسأل سوريا الأسد». وعندما يقول الصافي ذلك فهو أكبر تعبيرٍ عن أزمةٍ إنسانيةٍ مَشْرِقِيَّةٍ تتعلّق بتطويعِ الظروفِ الاجتماعية للمبادئ والقيَم، فيدخل المُبْدِعون والفنانون آلياً في منظومةِ الطغاةِ حرصاً على استمرارِ حضورِهم الجَماهيري واستمرار الدعم، كون مؤسسات الدول التي عاشوا فيها لم تقدّم لهم الحصانةَ المطلوبةَ لأي شططٍ يمكن أن يُجبروا عليه قافزين فوق الحقائق والحقوق.
إلى يمين وديع الصافي وإلى يساره، فنانون كثر (أكرمكم الله) لَعَقوا – حرفياً – حذاء مقرّبين من الطغاة في صورٍ شهيرةٍ عرضتْها وسائلُ الإعلام، وبعضهم قبّل الأيادي، وآخَرون قدّموا الابتذالَ على أنه عطاءٌ يفدي القائد بالروح والدم والجسد و«أشياء أخرى»، وكانت أعمالُهم «الوطنية» أسوأ من أسوأ بيانٍ لفرعٍ بعثي هنا أو هناك. كانت قمةُ ارتباكهم ليس في الخجل من عيون ضحايا هذا النظام أو ذاك، بل عندما ينشدون مثلاً لصدام وحافظ والقذافي وغيرهم وتحصل خلافاتٌ بين هؤلاء القادة فيما إذاعات دولهم تبثّ أغاني التمجيد لهم من قبل المطربين أنفسهم… وكان البقاءُ لمَن يدفع أكثر.
ولمَن يلوم مطربي تلك الفترة، وغالبيتهم شاختْ على قلة الإمكانات المادية، لا يمكنه إلا أن يضعَ ما اضطروا إليه في السياقِ العام لحركة الفن والثقافة في ذاك الزمان، من دون أن ننسى أن البعث والديكتاتورية والطغيان المدني (والديني لاحقاً) لا يمكنها التعايش إلا مع هذا النوع من الحِراك الفني المُتَمَحْوِرِ حول «وظيفةٍ» وطنيةٍ تتماهى مع كون القائد أو المشروع القومي (والديني لاحقاً) هو الخيار التاريخي للأمة (والقدسي لاحقاً).
يكفي، من دون الاستشهاد بمئات الشواهد، الحديث عن شخصٍ واحدٍ فقط بقامةِ وقيمة «شاعر العرب الأكبر» محمد مهدي الجواهري الذي كتب: «سلاماً أيها الأسدُ سلمتْ وتَسْلَمُ البلدُ وتَسْلَمُ أمّةٌ فَخَرَتْ بأنك فَخْرُ مَن تَلِد». ومَن يختصر الجواهري وأقرانه بهذا النوع من الشعر يظْلم الحقيقةَ أيضاً ويضع نفسَه في زاويةِ البروباغندا السطحية التي تختصر إبداعاتٍ غير مسبوقة بـ«أبيات الضرورة»، فهم قدّموا للتراث العربي قاعدةً جسرتْ الهوةَ بين مكتبة الزمان وحاضر المكان.
في المقلب الآخَر، المقلب الأوروبي والأميركي، استثناءاتٌ لأشخاص سخّروا قصائدهم وأغانيهم في خدمةِ القائد أو العقيدة، وهؤلاء كانوا قلّة، بعضُهم امتلك شجاعةَ الخجلِ والاعتذار لاحقاً، وبعضُهم آمَنَ بما كتب، وجميعهم فجّروا لاحقاً ميلاً لغالبيةٍ مطْلقة تكتب لفكرةٍ مثل الحرية، أو لمطلبٍ مثل المساواة، أو لتغييرٍ عبر تأييدِ ثوراتِ حقوق الإنسان بكل مضامينها.
كانوا يغنّون لحضاراتٍ ودولٍ لا لرؤساء الدول، ولمعاناةِ المدن لا لمَناظِرها الطبيعية، وللعلاقات الإنسانية والاجتماعية داخلها سواء عبر مرفأ ترصده عيْن جاك بريل، أو عبر «الموت من أجل أفكار» كما تمنّى جورج براسان، أو عبر حق المرأة «في ألا تندم على شيء» كما قاتلتْ اديث بياف، أو عبر تَخَيُّلِ العالم المِثالي مع نغمة غيتار جون لينون، أو إطلاق كشافٍ ضوئي على مآسي الأميركيين مع الفيس برسلي في «فندق هارتبرك» (Heartbreak Hotel).
لكن واحدة مِن أجرأ الأغاني التي طبعتْ العقود السابقة وساهمتْ في كسْر هيمنةِ ايديولوجياتٍ وعَصَبِيّاتٍ كانت رسالة بوريس فيان الغنائية إلى «السيد الرئيس»، حيث قال له فيها إنه تلقّى أمراً بالاستعداد للالتحاق بالجيش الفرنسي والمشاركة في الحرب، وإنه يرفض الأوامر فهو لم يُخلق لمحاربة الفقراء، وهو لا ينسى أنه خسر إخوةً له، ومعاناة والدته، ومنظر أطفاله وهو يساق إلى الأسر، وكيف سرقوا زوجته منه وهو قيد الاعتقال، وأكملوا بسرقة كل شيء سعيد في ماضيه.
ويختم رسالته بأنه سيغلق أبوابَه ويهيم في الطرق لتشجيع الناس على رفْض الحرب ونفيرها والخضوع للأوامر، داعياً الرئيس لأن يهرق هو دمَه بَدَلَ أن يعطي أوامرَه للآخَرين بنزْف دمائهم، قائلاً: «حذِّر جنودَك عندما يأتون إليّ بأنني لن أكون مسلّحاً ويمكنهم أن يطلقوا عليّ النار».
«غنِّ أحبك أن تغنّي وتحدّث الأطياب عني»… مطلع أغنية تصْلح لذاك البستان الغني بتلويناته، ذاك البستان الذي يمكنك التجوّل فيه لعقود وليس لسنوات أو ساعات، ذاك البستان الذي يمكن للمطرب فيه أن يرفض أوامرَ رئيسه بالقتل دون أن يضطر لمنْح عينيْه لرئيسٍ قاتل…
هؤلاء الذين انتحر كثيرون منهم بسبب الكآبة وفائض الحساسية وعقاقير التخدير وسيادة الظلم والعنف والعنصرية والتفرقة وحتى العقد الشخصية، كان استماعُهم مثلاً لأغنية «بالكيماوي يا صدام» كفيلاً بجعْل نهاياتِهم الفَرْدية نهاياتٍ جَماعية.