محمد برو – الناس نيوز :
في روايتها الجديدة “أحجية العزلة” تأخذك الروائية السعودية “أثير عبد الله النشمي” في رحلةٍ طويلةٍ، تغزل عوالمها بشكلٍ حلزوني دائرٍ في فضاءات الفتى “ثنيان”، تتحدث بلسانه وبخلجات نفسه، الأسيرة في عوالم تخيلاته، وتوحده وانكساراته، في تجربة الحب الوحيدة التي أُخرج منها رغماً عنه، في تماهيه بأمِّه، واجتهادها الذي يضارع الكمال، في حمايته وحماية عوالمه الشخصية.
يتحدث “ثنيان” عن النرجسية التي يعيشها ككاتب، عن تضخم الأنا التي ما تلبث أن تفتر بمجرد تحقق حلمه، بالفوز بإحدى جوائز الكتابة، والنجاح بحفر اسمه في سجل الكتّاب إلى الأبد.
رغم اهتمامه الواضح بالموسيقى العالمية، وبمتابعة الأدب والفلسفة بشكلٍ واسعٍ.
شخصية “ثنيان” المركبةٍ التي تجمع إلى تفاصيل كاتبٍ متوحدٍ يدور في عوالمه الداخلية كما تدور رحى الطاحون بلا نقطة بدايةٍ أو نهاية، ومقاومته الكليلة في الاندماج الذي طالما تاقت له روح أمه.
هو متقبلٌ لمعاناته مع طيف التوحد أو ما يسمى بمتلازمة اسبرجر (وهي واحدةٌ من اضطرابات طيف التوحد) حيث يُعاني المصابون بهذه المتلازمة، من صعوباتٍ كبيرةٍ في تفاعلهم الاجتماعي مع الآخرين، ووجود رغباتٍ وأنماط سلوكيةٍ مقيدةٍ ومكررة.
يتبدى لدى “ثنيان” ميلٌ إلى عوالم الكتابة، والاستسلام لمجريات الحياة، دون أدنى رغبةٍ بإبداء معاندةٍ أو مقاومة.
لقد عانى في صباه من التحرش والتنمر والتهميش في المدرسة، ويدين بالفضل لكل ما هو عليه من تماسك إلى الرعاية الفائقة التي أولته إياها أمه، هي محور الحياة ومصدر القناعات ومذللة الصعاب، وموطئة الحديث مع أبيه، كيما يسيربهما إلى الجهة التي يريد.
هي أستاذةٌ جامعيةٌ ذات حضورٍ طاغٍ ومحبب، تحب الموسيقى بشغف، وإن لم تكن امرأة مثالية، فهي بدون أدنى شك، مثالية في سعيها واجتهادها بأمومتها.
هي من رسخت في جنانه فكرة العالمة “تمبل جرانداين”
“أنه مختلفٌ، لكنه أبداً ليس اقل”، تمبل هي من اخترعت آلة العناق التي صممتها للأشخاص مفرطي الحساسية.
هو لا يجيد التحدث ولا يميل إليه، لهذا كان يحب الكتابة، فهي أداته لإيصال أفكاره إلى العالم، كذلك يحب الموسيقى، لأنها تعبر دونما حاجة إلى الكلمات، عمّا يريد قوله.
تعاوده الذكرى كيف أخذته أُمه من الرياض إلى عمّان ليشخص له طبيبه الكندي أنه مصابٌ “بمتلازمة اسبرجر”.
لا شيء أثَّر في حياته، تأثير تجربة الحب الأولى، وأنَّه اليوم بدون هذا الحب، خاوٍ تماماً، فقد كان حباً من طرفٍ واحدٍ “يُصبي الحليم ويبكي العين أحياناً”.
يكتشف في حواره مع والدته، طريقة الجدة في إظهار مشاعر الحب لديها، هي لا تعبِّر بالكلمات، بل بمنحها الحلوى لهم تعبيراً عن مشاعرها، حين يسأل أمه كيف علمتك الجدة التعبير عن الحب؟ تفاجئه ” هي لم تعلمني هذا، أنت من علَّمتني! أتظن أن الأمهات فقط من يعلمن أبنائهن كلَّ شيء؟ الأبناء أيضاً يعلمون أمهاتهن.
غالباً ما تربكه الذكريات، هو يتصالح مع “البرتو مانغويل” حين يقول “نحن لا نختار ما نتذكره” لكنه يحب بشغفٍ ما ذهب إليه “جبران خليل جبران” (النسيان شكلٌ من أشكال الحرية) طالما حلم هو بهذا الانعتاق من ذكرياته،التي ما تفتأ تقرع دماغه وروحه بتداعياتها المستمرة، تلك الذكريات المليئة بالألم.
سيكتشف يوماً ما أنَّ الحزن رفاهية، وأنَّنا مطالبون أن نستمتع به، لأننا سنفقد رفاهية الحزن حالما نصبح آباء، يومها سيكون لزاماً علينا أن نتجاوز الألم، وأن نصطنع الفرح والتفاؤل، من أجل أبنائنا، سيكون الحزن يومها مستنزفاً للطاقة، التي نحتاجها من أجل العناية بتلك الأرواح التي تسببنابمجيئها إلى هذا العالم.
سيبقى ” ثنيان” يحاورنا من عزلته فهو ملتصقٌ بها كما تلتصق السلحفاة بدرعها “إن من يدلف إلى العزلة سيتيه في متاهاتها غالباً إلى الأبد، سيكون من الصعب عليه الخروج منها، فكيف بمن خُلق في رحم الوحدة، وفتح عينيه على العزلة”.
حينما صمتت أمي سكتت الحياة
لا قدرة لأحد على تصور فجيعة الفقد ومصيبة الغياب”
يظن البعض أن الانسان يفقد القدرة على التأثير في الآخرين حين يرحل، لكن تبقى لدى البعض، القدرة على دفعنا إلى الحياة، حتى بعد صمتهم الأبدي وغيابهم الدائم”
لم تخطئ أمي في شيء، إلا في أنها لم تخطئ، ذلك الاجتهاد المثالي، ساعد الموت والحياة على تكبيلي.
في ختام الرواية وبعد موت أمه التي تركت البيت في حالةٍ مزرية من الخواء، يدفعه والده للكتابة ولاستثمار الحزن بالكتابة” ما هذه الوصية، حتى الحزن يمكن استثماره.
ليس في عوالم هذه الرواية وقائع وأحداث، ولا حبكة ولا ذروة، هي محضانسكاب متتابع لشلالات الذاكرة، وتحليقٍ ودوران في تلافيف هذه الروح المنزوية، التي ترقب العالم وتتفاعل معه بأسى.
براعةٌ نادرة تسحبنا فيها الروائية للعوم بتلك العوالم، التي غالبا ما نمر بجوارها دون أن يتسنى لنا الغوص في أجوائها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الروائية أثير عبد الله النشمي. سعودية تقيم في الرياض من مواليد عام “1984”
صدرت روايتها الأولى “أحببتك أكثر مما ينبغي” عام :2009″
تلتها خمس روايات تدور حول معاني الحب والصداقة والذاكرة والعاطفة بينما تدور روايتها الأخيرة “أحجية العزلة” حول العالم الداخلي لكاتب متوحد بنمط مختلف عن سائر المتوحدين
صدرت عن دار الفارابي شباط 2020
تقع في 180 صفحة من القطع المتوسط