ممدوح حمادة – الناس نيوز:
– رفيقكم صفوان في المشفى رقم اثنان وهو يريد أن يراكم.
هذا ما أخبر به الصوت الأنثوي أبا أحمد عندما رفع سماعة الهاتف الذي أيقظه رنينه من نومه في الساعة التاسعة صباحا.
الرفيق صفوان كان أكبر الرفاق سنا في المنظمة، ولكنه أقلهم عقلا رغم أنه يتميز برأس كبير يمكن القول بثقة إنه أكبر رأس في المنظمة ومنظمات المدن المجاورة، ما جعل صلعته تبدو مثل صحراء مترامية الأطراف، ومع ذلك شوهد ذات يوم وقد حلق شعره الخفيف الممتد على جانبي وقفا رأسه على الشفرة، وحين سئل عن السبب قال إنه فعل ذلك لكي يقوي شعره ولكن الحقيقة التي انكشفت لاحقا لم تكن كذلك أبدا وإنما السبب كان صديقته الصغيرة السن “صوفيا” التي لم تتجاوز الثامنة عشرة سوى بأشهر قليلة والتي كان صفوان متيما بها، فقد حولته هي وصديقاتها إلى ألعوبة يتندرن بها، وفي هذه المرة جلبت صوفيا لصفوان صبغة شعر لكي يستر به شيبه، فوافق صفوان بسرور وفعل كما طلبت منه صوفيا، ثم خرج معها إلى حديقة مزدحمة قريبة من مسكن الطلبة الذي يقطن فيه كانت قد دعته للنزهة فيها، ولم يعرف صفوان سبب النظرات المندهشة التي كان يوجهها المارة ورواد الحديقة إليه إلا عندما عاد إلى البيت ومر أمام المرآة التي خلف الباب وشاهد شعره الأزرق فقام على الفور بحلاقته بالشفرة، ولم تبق هناك أي إشارة للصبغة سوى الصور التي التقطتها صوفيا له والتي وزعتها على رفيقاتها فيما بعد للتندر، لم يكن ذلك المقلب الوحيد الذي تعرض له صفوان من قبل صوفيا التي تركها أخيرا بعد أن اقتنع بشكل لا يقبل الشك بأنه لن يحظى منها حتى بقبلة على الخد.
في الساعة العاشرة كان أبو أحمد في بهو المشفى رقم اثنان وما هي إلا لحظات حتى ظهر صفوان من الداخل بلصاقة طبية كبيرة تغطي صلعته من الأعلى.
– خير خير خير..
بادره أبو أحمد مكررا كلمة خير للدلالة على اهتمامه بالأمر.
– الكلب خليل…
قال صفوان وصمت لحظة ثم تابع:
– كنا نتناقش بالسياسة فهوى بمجروده الحديدي على رأسي.
كان خليل الحالة الوحيدة في المدينة لكردي في حزب البعث، ويمكن القول إنه كان ملكا أكثر من الملك وكان مواليا متعصبا في منافحته عن السلطة التي يبدو من خلال حديثه عنها أنه يقدسها، بعكس صفوان الذي كان يمقت تلك السلطة ويحملها مسؤولية جميع الكوارث التي حلت بالبلد، وكان خليل يسكن في الغرفة المجاورة لغرفة صفوان في مسكن الطلبة ومن باب التوفير كانا يتشاركان في وجبات الطعام وحول مائدة الطعام وخاصة على العشاء كانت تدور نقاشاتهما الحامية الوطيس.
قرر الرفاق أن هذا الموضوع يعتبر قضية شخصية وأنه لا يمكنهم فعل شيء بخصوصه وطلبوا من صفوان أن يكون حذرا في المرات القادمة وأن يحاول قدر الإمكان تجنب النقاش مع خليل الذي لا يختلف بشيء عن ذنب الكلب الأعوج، الذي لن يصلحه أي قالب، وإلا فكيف قبل على نفسه وهو الكردي أن يكون عضوا عاملا في حزب البعث العربي الاشتراكي؟ ووعد صفوان بأن يفعل ذلك، ولكن لم تمض ثلاثة أشهر حتى كان الصوت ينبعث من الهاتف مرة أخرى:
– رفيقكم صفوان في المشفى رقم اثنان وهو يريد أن يراكم.
وفي العاشرة تماما كان أبو أحمد مزروعا في بهو المشفى وما هي إلا لحظات حتى أطل صفوان بصلعته المضمدة:
– له له له..
قال أبو أحمد لكي يعبر عن أسفه ثم أضاف مستفسرا:
– خير؟
– الكلب خليل..
قال صفوان ثم تابع
– احتد النقاش بيننا فهوى على رأسي بالمجرود الحديدي.
في هذه المرة أيضا لم يتدخل الرفاق الذين يعرفون سلفا أن وساطتهم لن تجدي نفعا بسبب الكراهية التي يكنها خليل لحزبهم، وعلى العموم فقد كان ذلك شعورا متبادلا بين الطرفين.
تكررت العملية عدة مرات في غضون أشهر مما دفع الرفاق للتفكير بطرقة يحمون فيها صلعة رفيقهم صفوان من مجرود خليل، فذهب وفد منهم في محاولة لمحاورة خليل بالموضوع، لم يُظهر خليل كراهيته لهم كما كانوا يتوقعون، فقد استقبلهم بحفاوة وأعرب لهم أنه أيضا كان ينوي التحدث معهم ولكنهم سبقوه، عاتبه الرفاق على سلوكه مع صفوان وذكروه أنهما أبناء وطن واحد في الغربة ومهما بلغت الخلافات السياسية حدةً فإنها يجب ألا تصل إلى حد الضرب بالمجرود على الرأس، وهنا قاطع خليل الشخص المتحدث وسأله بعصبية واضحة:
– إذا بصق شخص بوجهك أتضربه بالمجرود أم لا تضربه؟ أجبني إذا بصق شخص بوجهك أتضربه بالمجرود أم لا.. الحمد لله أنه لايوجد كلاشنكوف، فلو كان عندي كلاشنكوف كنت أفرغت مخزنا كاملا ثلاثين طلقة في رأسه وما كنت لأكتفي بالمجرود.
صمت الرفاق عندما اكتشفوا أن لدى خليل مبرراته لفعل ذلك، وعندما سألوا صفوان عن صحة ذلك اعترف بالحقيقة محرجا وقال مبررا:
– يا أخي لا أستطيع تمالك نفسي عندما يقول إنه لا يوجد معتقلون سياسيون .. وأخي الذي يقبع في السجن منذ عشر سنين ماذا يفعل هناك؟ هل يقضي فترة استجمام أم أنه معتقل سياسي؟
أدرك الرفاق أنه لا حل للموضوع فخليل سيبقى ينافق وصفوان سيظل يبصق في وجهه فيهوي خليل بالمجرود على رأسه ثم بعد خروجه من المشفى سيقبّل كلا الطرفين شاربي بعضهما ويجلسان إلى مائدة الطعام وسيسكب خليل الفودكا ويقرعان الكؤوس وينفتح النقاش، ولذلك قرر الرفاق شراء مجرود بلاستيكي من ميزانية المنظمة وتقديمه هدية لخليل حفاظا على صلعة الرفيق صفوان.