د . غادة أبوشحيط – الناس نيوز ::
قد يختلف المتابعون للشأن الأدبي حول أهمية الجوائز في ترجمة قيمة عمل أدبي، نظراً للخلفيات التي قد تحكم هذه الجوائز. في المنطقة العربية تعد “الجائزة العالمية للرواية العربية” المعروفة أيضا بالـ “البوكر العربية” .
لا شك أن لكل طبعة ما يميزها خصوصاً في ظل تربع الرواية على عرش الأنواع الأدبية الأكثر انتشاراً إبداعاً وقراءة في المنطقة، عكس الشعر. ما ميز طبعة 2021 هو ترشح ثلاث روايات بوليسية للقائمة الطويلة للبوكر العربية وهي “قاف قاتل، سين سعيد” للكويتي عبد الله البصيص، و”الملف 42″ للمغربي عبد المجيد سباطة (التي وصلت الأدوار النهائية) إضافة لـ “طير الليل” للجزائري عمارة لخوص.
الرواية البوليسية، وأدب الجريمة عموماً من الأنواع الأدبية الأكثر انتشاراً في العالم، وربما هما الأكثر مبيعاً في سوق الكتب، يتميز الاسكندنافيون في كتابتها. كان الأمريكي “إدغار آلان بو” من أسس لها، حتى أن البعض ينسب تسمية “بولار” لـ “بو”، لكن ما يغيب عن علم العامة ربما هو الأصول الشرقية للـ “لبولار”، أو أدب الجريمة، والتي ينسبها الباحثون في هذا النوع وتاريخه لقصة “الصبية المقتولة” أو “التفاحات الثلاث” التي تقع في الجزء الأول من “ألف ليلة وليلة”، حين يفاجأ الخليفة في قصة شهرزاد بجثة امرأة داخل صندوق، لتبدأ رحلة التعرف على هويتها والاقتصاص ممن فعل بها ذلك.
عموماً تحسب الرواية البوليسية على الأدب الشعبي ينتظر القارئ منه حبكة مضبوطة، وتشويقاً كبيراً تساعده على ولوج عالم الرواية حتى يتحول من مجرد قارئ متلقي، إلى قارئ فاعل يبحث عن الحلول، ويلاحق الأخطاء التي قد يقع فيها أي كاتب لهذا النوع الروائي.
في الأدب العربي هذا النوع الأدبي تحديداً ليس أمراً جديداً ، نجيب محفوظ أبدع فيه بروايته الشهيرة “اللص والكلاب”، والجزائري “ياسمينة خضرا” الذي استهل مشواره في الأدب مع أدب الجريمة، وهو الذي اشتغل طويلاً كعسكري.
إن المدقق في الروايات العربية التي تصنف ضمن أدب الجريمة، المتأخرة تحديداً، كالثلاثي البصيص، لخوص، سباطة، سيتوقف عند اشتراك الروايات الثلاث في معالجة حوادث تاريخية في هذا البلد أو ذاك معالجة بوليسية، فالكويتي عبد الله البصيص مثلاً قدم حبكة بسيطة ودارت الرواية كاملة حول شهادات عمن اغتال سعيد الولد الطيب، أما المميز في الرواية هو تناول البصيص للحظة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، وهو الغزو العراقي لها، لكنه لم يستفض فيها كثيراً.
أما المغربي عبد المجيد سباطة فقد تميز في استلهام رواية الإيطالي امبرتو ايكو “اسم الوردة”، إذ ارتحل بقارئه في أكثر من بلد، وأكثر من قصة، منطلقاً من الكاتب الذي يضيع مخطوطه إلى قصة جريمة يرتكبها ابن أحد الأعيان، ليدفع ثمنها بطريقة غير مباشرة على الأراضي الروسية حيث ذهب ليدرس الطب، وقد بنى حبكته حول إحدى الفضائح التي هزت مغرب السبعينات، حول قضية مصنع للزيوت الغذائية.
الجزائري عمارة لخوص، بدا أكثر هذه الأقلام شراهة، وهو يختزل أكثر من ستة عقود من حياة البلاد في رواية واحدة، عنونها بـ “طير الليل”، أو من سنعرف اسمه من خلال فصول الرواية “ميلود صبري”، الشخصية الزئبقية القادرة على التلون والتكيف كما قادرة على ارتكاب أبشع الفظاعات.
تتخذ الرواية من مدينة وهران غرب الجزائر ديكورا، إذ تقدم مشروعاً جريئاً على المستوى الروائي كما مستوى استقراء التاريخ.
تبدأ رواية “طير الليل” من الدقائق الأخيرة في حياة بطل الرواية “ميلود صبري” أو “طير الليل” يغتال في يوم ذكرى استقلال الجزائر بطريقة شنيعة جداً، وهو المجاهد السابق والرجل صاحب النفوذ.
يكلف العقيد كريم سلطاني من جهاز مكافحة الإرهاب في التحقيق بالجريمة التي لن تكون الوحيدة، ما يضعه أمام سلسلة من الجرائم، منها ما كلف بالتحقيق فيها وأخرى أسدل الستار عنها لوقوعها في حقب زمنية مختلفة.
يتعرض صهر “طير الليل” للتسميم في ذات اليوم، ما يزيد من غموض وضبابية التحقيق، ويضطر المحقق “كريم سلطاني” إلى البحث واستكشاف أكثر من فرضية. الجريمة التي انطلقت بشبهة الإرهاب العابر للقارات تنتهي على إغلاق رسمي للملف، مع احترام تام لجوع القارئ في الحصول على أجوبة مقنعة.
نكتشف مع لخوص أن الجريمة الوحيدة تكشف عن جرائم أخرى، وأن الألم الواحد سبب في تفجير آلام كثيرة. ننتقل مع الكاتب من التعاطف الطبيعي مع الضحية إلى التعاطف المرضي مع الجاني أو الجناة، نتجاوز البحث فيمن قتل “السي ميلود صبري” نحو النبش فيما ارتكبه الرجل وجعله يحصل على مثل الميتة الشنيعة تلك، والتي تحمل أكثر من دلالة ورمزية.
الرجل الذي، وشى، فرق، غدر، خان، تلاعب بالعقول، صفى حتى ابنته وسعى لتصفية حفيدته، سلط سيفه على رقاب الأصدقاء قبل الأعداء، حق له أن يكون بطل رواية بوليسية سوداء، تمتزج فيها الجريمة بحلول مرضية تشفي غليل القارئ ولكن على نحو غير سوي.
يصر عمارة لخوص منذ بداية الرواية على توظيف قصة “هابيل وقابيل”، في كناية واضحة عن الأحداث التي هو بصدد معالجتها، لكن ينتهي عند القول على لسان أحد أبطال الرواية أن “قابيل” هو من انتصر في أرض الجزائر، وهو لا يخطئ إذا حللنا تاريخ الجزائر من زاوية أفعال بطل الرواية “طير الليل” الذي لا يعيش سوى في الأقبية والأماكن المعتمة حتى من التاريخ.
“ميلود صبري” نموذج جعله الكاتب فريداً، شر مطلق، على الرغم من توظيف أقران له بمستوى وحشية مقارب كأصهاره “يوسف مصباح” و”بدر الدين بوزار” وغيرهما، المميز أن جميعهم قادر على طعن الأقربين في الظهر: “فريدة ويوسف” أخوا “زهرة” جاسوسان، وأختهما مجاهدة، “بدرو” هو من قتل “رضوان” صديقه وتلاعب بأخته، وقائمة الخيانات طويلة بل هي النسيج الأساسي الذي تقوم عليه الرواية.
اختار الروائي تقسيم فصول عمله وترتيبها على مستويين كرونولوجيين: مستوى الزمن الحاضر للجريمة وفك ألغازها، ومستوى كرونولوجي يروي ستين عاماً من حياة أبطاله، ربما لأن فهم جريمة بهذا الحجم تستدعي تشريحاً تفصيلياً لما حدث في الماضي، وذلك ما ينجح فيه عمارة لخوص من خلال سرد لأحداث محورية في تاريخ أبطاله، وتاريخ الجزائر بالمقابل.
ستون سنة من الأزمات التي افتعلها الإخوة، ستون سنة من التلاعب والغدر، ستون سنة قبل أن يوضع حد لـ “طير الليل” من طرف أصحاب الحق: المحبوبة التي سرقت فرحتها هي وحبيبها بوشاية يوم الاستقلال الرسمي، المجاهد الطيب الذي نكل به وبتاريخه، المحامي الشغوف الذي لُوث شرفه، الصحفي المحترم الذي تمت تصفية حبيبته أمام عينيه، وغيرهم كثيرون.
إن المتميز في سوق الرواية البوليسية العربية، إذا أجمعنا على وجودها، فهو تعاظم حجمها، وتزايد عدد المتعاطين معها، فــ “قاف قاتل سين سعيد” للكويتي عبد الله البصيص حققت إقبالاً جماهيرياً كبيراً، وتواجد ثلاث روايات من هذا النوع تحديداً في إحدى أهم المسابقات العربية هو أمر صحي جداً بالنسبة لنوع روائي بعينه، لكن ذلك لا يغني عن طرح تساؤلات عن اختيار هذا النوع تحديداً في معالجة تاريخ هذا البلد أو ذاك، واستخدام أدواته لإزالة اللبس، أو كتابة تاريخ موازي من خلال التخييل الأدبي.