نور أبوفراج – الناس نيوز
يحيل اسم «أستراليا» شريحة واسعة من القراء العرب لاستذكار رواية كولين مكلو «طيور الشوك»، على اعتبارها أشهر عمل كلاسيكي أسترالي تم ترجمته إلى اللغة العربية. إذ تكاد لا تخلو مكتبة سورية من كتاب الجيب ذاك بأجزائه الثلاثة الصادر بطبعته عن دار طلاس عام 1996.
والملحمة التي تحكي تاريخ عائلة «كيري» على امتداد نصف قرن (1915-1969)، متخذة من قصة حب بطليها -الأب رالف دي بريكاسارت والشابة ميغي- حجر الأساس، استطاعت رسم ملامح القارة الأسترالية ذات البيئة الجامحة والمهيمنة على مصائر أبطالها. بحيث يحتفظ القارئ بعد الانتهاء من الكتاب بصورة البيت الكبير المُحاط بأشجار الصمغ والمُغطى بالشباك لمنع الحشرات، أو مشهد الحريق الذي يلتهم الشجر والماشية والناس.
لكن وبعيداً عن «طيور الشوك»، التي باتت تعد في مصافي الأعمال الكلاسيكية العالمية التي تبدو أحياناً مُنتزعة من سياقها لاعتبارها قصة حب قد تحدث في أي زمان أو مكان، يكاد يصعب على القارئ العربي استذكار أي عمل أسترالي معاصر مترجم إلى العربية.
عادة ما يستطيع الأدب أن يرسم في أذهان القراء تصوراً عن ملامح المكان الذي جاء منه. كما حدث مع أدب أمريكا اللاتينية، أو الأدب الروسي المترجم إلى العربية. يعين ذلك القارئ على فهم طبائع الناس وانشغالاتهم والحيّز الذي يتحركون ضمنه أو المشاهد التي تراها عيونهم في تلك البقاع من العالم. حتى يظن القارئ نفسه قدراً على وصف الأشجار التي تنمو في شوارع بطرسبورغ أو الأمسيات الصاخبة في هافانا.
لكن الكتب الأسترالية القليلة التي وصلت إلى القارئ العربي لم تستطع أن تقوم بمهمة مماثلة وتحديداً فيما يتعلق بأستراليا المعاصرة، بحيث يجد القارئ نفسه مُتسائلاً: ماذا حدث لأستراليا بعد انتهاء حقبة المستعمرين البريطانيين الذين يطلقون النار على السكان الأصليين كما لو أنهم يستمتعون بصيد الكنغر؟ ماذا عن صورة الحياة المعاصرة اليوم في ميلبورن أو سيدني مثلاً، كيف يعيش الناس حياتهم في قارة ضخمة نكاد لا نعرف عنها شيئاً؟
على الرغم من قلة الأعمال الأدبية المترجمة إلى العربية، قد يكون الروائي الأسترالي ريتشارد فلاناغن أكثر الكُتاب الأستراليين المعاصرين معرفة لدى القارئ العربي، بعد ترجمة روايتيه: «الرغبة» (منشورات الجمل 2018) و «الدرب الضيق إلى مجاهل الشمال» (منشورات الجمل 2016).
تعالج رواية الرغبة مقولة “إصلاح البرابرة” من منظور المستعمر البريطاني الذي يرى التمدن في قمع روح أستراليا ورغباتها وتشذيبها. ففي الفصول الأولى من الرواية يقع القارئ على عبارات يصف فيها فلاناغن موقف أحد أبطال روايته، وهو «كاهن» تم تعينه وصيّاً على إحدى القُرى التي تسكنها بقايا قبائل من السكان الأصليين، فنراه يكتب: “واصل العمل ليجعل هذا العالم الجديد مثالياً في تمدنه، في مسيحيته، في إنكليزيته، لقد كان حاميهم لكنهم استمروا بالموت”. فيما يتم التعبير عن روح القارة البكر والجامحة بصورة الفتاة «ماثينا» التي تبناها زوجان بريطانيان وتوليا تهذيبها قبل أن يعتدي عليها الزوج جنسياً ومن ثم يقررا التخلي عنها وتركها لمصيرٍ بائس. هذا وتعمل المنظومة الثقافية البريطانية، ممثلة بتشارلز ديكنز على تلميع صورة المغتصب محوّلةً إياه إلى مغامر شجاع لا يتخلى عن قيمه النبيلة في أشد الظروف قتامة. وبالتالي يمكن القول بأن الكتاب بهذا المعنى، يُعنى أكثر بانتقاد نظرة البريطانيين إلى أستراليا، وموقفهم المتعالي والعنيف منها، أكثر مما يعين القارئ على فهمها واستكشافها، خاصة وأن أحداث الكتاب تجري بالتوازي منتقلة بين لندن وأستراليا.
من المُلاحظ أيضاً فيما يتعلق بأعمال الكتّاب الأستراليين المترجمة إلى العربية، أن الكثير من منها تجري أحداثها خارج أستراليا، بحيث لا تعين أيضاً على نقل صورة الحياة فيها. فرواية سارقة الكتب للكاتب ماركوس زوساك (دار ممدوح عدوان 2018) تدور أحداثها في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. أما كتاب «الدرب الضيق إلى مجاهل الشمال» -الذي تم الإشارة إليه سابقاً- فتقع أحداثه عند سكة حديد الموت بين تايلاندا وبورما (جنوب شرقي آسيا) وإن كان أبطال الحكاية أسرى أستراليين في الحرب العالمية الثانية.
في المقابل يمكن أن يتعرف القارئ على نوع آخر من الأدب الأسترالي بقراءة رواية «مشروع روزي» لجرايم سيسمون (دار العربي للنشر والتوزيع 2017). وعلى الرغم من أن الكتاب تدور أحداثه في سيدني المعاصرة، إلا أنه لا يُستثنى تماماً من ملاحظة الاغتراب عن البيئة بالنظر إلى الندرة الشديدة للإحالات المتعلقة بجغرافيا أستراليا أو هويتها. لكن الكتاب مع ذلك قد يعين على ترميم بعض الثغرات فيما يتعلق بفهم طبيعة الحياة الاجتماعية والثقافية عند شريحة محددة من الأكاديميين في الجامعات الأسترالية، على اعتبار أن بطل الرواية “عالم جينات” يواجه صعوبات في التفاعل الاجتماعي ويخضع حياته لنظام صارم مضبوط، بحيث يصمم استبياناً للبحث عن زوجة ملائمة. وينتهي العمل كالمتوقع بأن يقع في حب “روزي” الفتاة التي تناقض كل معيار وضعه.
هذا واتخذت دار العربي للنشر قراراً باعتماد اللهجة المحكية المصرية في ترجمة الحوارات بين الشخصيات، ما كرّس شعوراً بالانفصال عن البيئة الأصلية للكتاب، ووسم العمل بنوعٍ من الخفة بحيث يحس القارئ بأنه يتابع فيلماً رومانسياً على التلفزيون بدلاً من قراءة عمل أدبي.
من جانبٍ آخر، يبدو أن أعمال الكاتب والشاعر ديفيد معلوف ذو الأصول اللبنانية، تناقض الانطباع المبدئي حول ابتعاد الأدب الأسترالي عن بيئته. بل ربما العكس هو الصحيح بحيث يبدو أن الميزة الأبرز في أعمال هذا الكاتب أنها تكشف: “التأثير الحاسم الذي يلعبه المكان في النشاط الإنساني والإبداعي” وفق ما جاء في لقاء مترجم معه نشره موقع ثقافات عام 2016. عند سؤاله عن أسباب إصراره على توضيح تسميات الأشجار والطيور والنباتات أو حتى أنماط المناخ في أعماله. أجاب معلوف: “تمنح أستراليا الكاتب هبة حقيقية في السياق الذي حكيتَ عنه لأن كل شيء فيها يبدو مع تطور الفعل الكتابي كما لو كان استغواراً لبدايات الأشياء جميعها”. وبخلاف غيره من الكتّاب، لم يقصر معلوف اهتمامه بالكتابة عن بدايات تأسيس أستراليا التي نعرفها اليوم بل عالج أيضاً انعكاسات الحرب العالمية الثانية عليها، ومن ثم التغيّرات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها في منتصف الستينات، هذا إلى جانب تركيزه على ما يسميه «القيم الأسترالية» التي تبلورت من وجهة نظره نتيجة الصراع للسيطرة على بيئة قفراء أجبرت الناس على التعاون والعمل بصورة موحدة لإخضاعها وتحويلها إلى ما بات اليوم يُعرف ب «أستراليا المعاصرة»، لكن معظم أعماله تلك لم تترجم أيضاً إلى العربية. فما وصلنا يقتصر على كتاب «الإرهابي» (منشورات الجمل 2010) و«حياة متخيلة» (دار المدى، 1996) التي تدور أحداثها للمصادفة أيضاً في رومانيا.
قد يكون هذا الانطباع حول هوية المكان المبهمة في أعمال الكُتّاب الأستراليين عائد فقط إلى خيارات الترجمة التي تلعب دور مصفاة تتحكم فيما يصلنا من أعمالهم، أو أن للأمر أسباب أعقد تتعلق بتركيبة الكومنولث الأسترالي القائمة على تعدد الثقافات والعلاقة المُركبة مع بريطانيا وغيرها من الدول الغربية، والذي أدى بدوره إلى إنتاج أدب يهيم خارج حدود القارة ويترك الحياة التي تجري فيها لغزاً غامضاً يصعب تخيله.