غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
يحفل تاريخ الأدب بنماذج من كتب نشرت في حلقات على الصحف قبل أن تعرف طريقها للنشر فيما كان يعرف ب”الرواية المسلسل” والأمثلة كثيرة “الفرسان الثلاث” ل”ألكسندر دوما”، ثم “جول فيرن”، بالزاك” وغيرهم كثر. بل أن هذا النوع من “الروايات المسلسل” قد أسست لأنواع أدبية ك”الرواية القضائية” والتي ستؤسس للرواية البوليسية بعدها، و”الرواية الاجتماعية” بل حتى “الخيال العلمي”.
لعل أشهر هذا النوع من النشر الأدبي في العالم العربي تبقى رواية “أولاد حارتنا” للكبير “نجيب محفوظ” (والتي ستؤسس بدورها للرواية العربية الحديثة الممنوعة والمقموعة).
من أكثر الأسئلة التي شعرت بضيق هذا الكاتب أو ذاك وأنا أحاوره (لم أقصد يوما إحراج أحد إطلاقا) دارت في الأغلب الأعم حول العلاقة بالقارئ، التي اتفق كثر أنهم يتنازلون عليها للناشر، الذي يوكلون له مهمة معرفة القارئ (أو سوق الكتاب بصيغة أخرى)، ويتنازلون بذلك له عن بعض من السلطة على نصوصهم. علاقة غريبة اتفقت أطرافها على تأدية أدوار، رغم أن تحول كتاب لبيست سيلر حلم – مشروع – يدغدغ كل كاتب، لا يتجاوزه نشوة سوى اجتماع إشادة النقاد بإقبال الجمهور.
من سنة تقريبا أحدثت “سارة ريفنز” شابة جزائرية مفاجأة في الأوساط الأدبية خارج الجزائر قبل داخلها، إثر تناقل الكثير من وسائل الإعلام خبر تصدر رواياتها لقوائم المبيعات في أوروبا. تصدر اسمها التريند أياما قبل أن يختفي في البلد.
أشاد البعض بها وبتجربتها دون اقتراب جدي من عوالمها، بل تردد خبر حضورها صالون الجزائر الدولي للكتاب في نسخة 2023 دون أن يتم ذلك.
ندرة الظهور مع قلة الحوارات، بالإضافة إلى غرائبية ما تقترحه الشابة مضمونا وممارسة جعل مقاطع التطبيل التقليدية (وكذا تقطيع الفرو) تختفي سريعا.
لكن الثابت أن ما أنجزته الشابة جاء في إطار ممارسة مثيرة تحظى باهتمام متزايد في تحليل تحولات سوق الكتاب عالميا. منذ أزيد من سنة نشرت مجلة “لومند ديبلوماتيك” ملف من أهم ما جاء فيه إحصائيات حول النشر الرقمي، الذي يعرف انفجار رقم أعمال بعض الشركات التي تعمل انطلاقا من بلدان إفريقية على رأسها نيجيريا، تمارس كتابة تحت الطلب.
إذ يقوم المكلف بالزبائن بالتعرف إلى طلبات الزبون (جلهم نساء حسب ما ذكر) وكتابة قصص وروايات يتحكم القراء في أحداثها ومغامراتها (الرومانسية غالبا)، ممارسة تطرح إشكالية حقوق الملكية الفكرية التقليدية، وجدوى، لا وبل المعنى الأدب وفنونه.
كذلك كانت تفعل الشابة “ريفنز” بطموحات أقل وهي تكتب على مجموعات مواقع تواصل اجتماعي متخصصة وعامة نصوصا، تعرضها على القراء وتخضعها لتقييمهم، وتستلهم ما قد يساعدها على مواصلة القص، بلغة فرنسية بسيطة، ومغامرات كثيرة عجائبية وحالمة، مفصلة على مقاس ما يفضله قراءها. نجاح الشابة على مواقع التواصل الاجتماعي هو الذي قادها إلى دور النشر، التي جاءت تستثمر في نجاح “أدبي” محقق، تجربة وإن كانت مثيرة للاهتمام فليست الأولى، إذ عرفت رواية “50 درجة من الرمادي/ فيفتي شايدز أوف غراي” قدرا مشابها، هي التي بدأت نصوصا متفرقة تسعى لإغواء الكوميونيتي (فانزات كاتب إلكتروني معين) لتنتهي روايات ثم فيلما شهيرا.
يبدو منحى النشر الجديد التي تؤسس له هكذا ممارسات وقد قلب هرم عملية النشر، منطلقا من الكاتب والقارئ إذا أردنا، لا يأتي فيه دور الناشر سوى متأخرا كاستثمار اقتصادي بحت، ولإضفاء مشروعية للكاتب في عالم يعيش تجاور زمنين تقليدي معروف وواضح الملامح، وآخر وليد بقواعد جديدة لسنا نتكهن بمستقبله بعد.
لم تثر “ريفنس” وعوالمها الحفائظ بنجاحها فقط بل أيضا بالمواضيع التي تطرقها خصوصا وأن أشد المقبلين على هذه الأنواع الأدبية من المراهقين، إذ يتحدث كثر عن عنف وإباحية بالإضافة إلى ممارسات سادية مفصلة ترغب فيها أجيال جديدة منفتحة على عوالم الجنس منذ سن صغيرة، ما يجعل البعض يفكر في تقنين التعرض إليها واستهلاكها لكن لا وسائل إنتاجها تساعد على ذلك، بل وتطرح إشكالية أخلاقية أخرى في غاية الحساسية حول فرض الرقابة على الأدب.
لسنا نعلم تأثير آراء القراء في الكتابات المتسلسلة للكتاب الأوائل الذين نشروا أعمالهم عبر الصحف قبل أن تجمع بين دفاف الكتب، ولكن الثابت أنها جاءت مليئة بالمغامرات حتى تواصل استثارة الجمهور لأطول وقت (كالفرسان الثلاث تحديدا)، بل هناك من يقول أنها الجد الفعلي للسلاسل التلفزية كما نعرفها اليوم، مليئة بالدراما والمفاجآت والتشويق، لكنها جاءت أيضا شديدة الارتباط بقيم وتحولات عصرها.
الأمر الذي ينطبق نسبيا على ممارسة كالتي أتتها الشابة الجزائرية، في عالم زائل الحواجز نظريا، له ما يخوله من وسائل الإنجاز والابتكار ويساعده على التماهي مع ثقافة جماهيرية عالمية، والقيم التي تتحكم في مخيال مشترك انطلاقا من الموجود والسائد ثقافيا فيها.
ليس المراد مما سبق التبشير بأدب يخضع لقانون الطلب حصرا، قناعة بأن الأدب هو الفن الأشمل (يبقى رأيا خاصا جدا) ولكن أيضا للنظر إلى قادم التحولات، وإذا كان مجال النشر له تقاليده الراسخة وقواعده المهنية والترسانة القانونية المتجددة، والمناخ الديمقراطي الذي يتطور فيه، فالسائد في العالم العربي (عدا قلة نادرة من دور النشر التي تحترم مجالها) يخضع لقانون العرض حصرا والمؤكد أنه لا يختلف كثيرا عن حصرية الطلب في درجة سميته.
غادة بوشحيط – كاتبة ومترجمة .