د . ممدوح حمادة – الناس نيوز ::
لم يكن مروان يشغل مكانة مرموقة على جدول كتاب السيناريو في البلد ولهذا السبب لم يكن له كلمة في اختيار الممثلين ولم يكن المخرجون يعيرون أي اهتمام لترشيحاته من الممثلين ويمكن القول إنها كانت حالات نادرة تلك التي كان يتم اعتماد ممثل ما من بين الأسماء التي رشحها ولكن ذلك لم يكن يحدث لأن مروان تحديداً هو من رشح الممثل وإنما لأن شخصاً آخر قام بفعل ذلك مزامنة مع مروان ويمكن القول إن بطلة أي مسلسل مهما كانت عديمة الموهبة كان لها سطوة على المخرج والمنتج أكثر من مروان بمئة مرة، وهذا ما لم يكن يفهمه صفوان شريك مروان في الشقة التي يشغلانها في حي الأكراد في أعلى نقطة وصلت إليها العشوائيات في سفح قاسيون موقف (الكيكية) حيث كان صفوان يعتقد أن مروان يجرح بظفره كما يقولون بالعامية ويكفي أن يشير بإصبعه إلى اسم أي شخص لكي يعطى دوراً ثانياً في العمل إن لم يكن دور بطولة وحتى عندما كان صفوان يشعر بأن مروان لا حول له ولا قوة في التأثير على عمل الماكينة الإنتاجية فإنه لم يكن يعذره ويتناسى مطالبه بل أن أنانيته كانت تدفعه للتسبب بمشاعر المهانة عند مروان خاصة عندما يسأله:
– أنت المؤلف يا رجل، أيعقل أنه ليس لديك كلمة في العمل؟
وكان دائما يذكره مستخدماً العبارة التي لا يعرف غيرها على الأغلب لمثل هذه المناسبات:
– في البدء كانت الكلمة يا أخي.
كان مروان يتلوى في داخله مثل أفعى مصابة بالتشنج عندما يقول له صفوان ذلك ويشعر بالحقد على المخرج وعلى المنتج وعلى صفوان في آن معاً ولكنه كان يكتفي بالصمت فهو يعمل في هذه المهنة فقط من أجل أن يحصل على بعض المبالغ التي تؤهله للعيش تحت ظل ظروف مقبولة وعدم العودة إلى التسكع في الشوارع وزيارة الأقارب والأصدقاء في أوقات الغداء والعشاء.
رشح مروان صفوان لأدوار مختلفة في عشرات الأعمال ولكن أحداً لم يأخذ بكلامه، مرة واحدة فقط تم الأخذ بكلامه وقبل مروان في دور صغير هو عبارة عن مشهد يجمعه في حوار بسيط مع بطل العمل وشكل ذلك فرحة لا توصف بالنسبة لمروان الذي شعر لأول مرة في حياته بأنه صاحب كلمة في العمل الذي يكتبه وعندما تذمر صفوان من صغر الدور أجابه مروان:
– صعود السلم درجة درجة.
وظل صفوان الذي رغم تذمره من صغر الدور قبل رأس مروان، ظل ينتظر الأشهر المقبلة التي تفصلهم عن رمضان موعد عرض المسلسل على أحر من الجمر ولم ينس خلال هذه الفترة إخبار جميع الأهل والأصدقاء وحتى المعارف بأنه مشارك في المسلسل الذي ينتظره الجميع وأصبح يتصرف كممثل وزميل مهنة فلم يعد يذكر الكنية عندما يتحدث عن ممثل ما فتارة تسمعه يقول: “أنا قلت لياسر ذلك” ثم تعرف أن المقصود في كلامه هو ياسر العظمة أو: “كنت قاعد أنا وبسام ومها.. ” ثم تعرف أن المقصود هو بسام كوسا ومها المصري، وأحيانا يستغني عن الاسم والكنية معا فيقول مثلاً: “كنا قاعدين بالاستراحة وحكى لنا أبو راكان قصة ناتالي” فتعرف أن أبو راكان هو حسام تحسين بك وإلى آخره من القصص عن زملائه في الوسط الفني، وعندما جاء رمضان وبدأ عرض المسلسل كان دائماً ينبه الحضور لاسمه في الشارة الأخيرة وعندما يمازحه أحدهم مشيراً إلى ذلك كان يقول كما قال له مروان:
– صعود السلم درجة درجة وسيأتي يوم يكون اسمي فيه أول اسم في الشارة.
انتظر صفوان الحلقة السابعة والعشرين حيث يقع مشهده الوحيد بلهفة لا توصف وأخبر الجميع بموعد عرض الحلقة وتجمع الأهل والجيران كلهم في البيت أمام الشاشة في انتظار اللحظة الحاسمة ولكن عند عرض المسلسل أكتشف أن لا وجود له فيه وأنه قد تم استبداله بممثل آخر مما جعله يشعر بالصدمة ويؤكد أنه وقع ضحية مؤامرة أدت إلى استبداله بممثل آخر والدليل هو اسمه الذي نسيه مختص المونتاج في الشارة ولم ينس الحديث عن المافيات والوساطات والشللية والمحسوبية وغير ذلك مما يرد في ذهن المغبون من مبررات جعلته محط الغبن هذا، بعد ذلك دخل صفوان في مرحلة اكتئاب عميقة خاصة أن الممثل الآخر كما أكد أكثر من مرة قد لعب الدور بشكل سيء، مروان تضامن مع صفوان ولأول مرة في حياته يشعر أن كرامته ككاتب سيناريو قد انتهكت وتم دوسها، ولأول مرة كذلك قام برفع صوته على المنتج والمخرج اللذين أوضحا له أن هناك خطأ فني دفعهم لإعادة تصوير المشهد بالممثل الذي كان متوفراً في موقع التصوير اختصاراً للوقت ورغم أن مروان لم يقتنع بكلام المخرج والمنتج ورغم أنه على دراية بعلاقة القربى بين المنتج وهذا الممثل السيء إلا أنه وجد في تبريراتهم فرصة لكبح جماح كرامته وطي الصفحة لكي لا يقطع معهم شعرة معاوية التي كانت في أوهى حالاتها في تلك اللحظة، ومع مرور الوقت تلاشت حالة الاكتئاب التي أصيب بها صفوان وعادت العجلة تدور كما كانت تفعل قبل المشهد المحذوف وتكررت الكثير من المواقف والإساءات بحق مروان إلى أن جاء ذلك اليوم الذي أسند فيه إخراج المسلسل البوليسي الذي ساهم في كتابة السيناريو له واعتبر لاحقاً أسوأ مسلسل بوليسي في الدراما العربية للمخرج (سامي فقمة) الذي ترفع الى رتبة مخرج بعد أن كان يعمل “مونتيرا” في جزيرة المونتاج في الشركة سابقاً وتعود صداقة مروان معه إلى تلك الفترة حيث كان كمؤلف أعلى منزلة منه وبالتالي فإنه يشعر بأن له كلمة عليه فقام باقتراح صفوان ووافق سامي على الفور وأخبر مروان أن يطلب منه الحضور إلى الشركة.
في اليوم التالي ذهب صفوان إلى مقر الشركة والتقى المخرج الذي رحب به بحرارة وأعطاه دستة من الورق كتب عليها اسم المسلسل ورقم الحلقة واسم المؤلف الذي هو مروان وقال له بأنه سيسند له دوراً يبلغ عدد مشاهده فيه أربعين مشهداً وهو أكبر من عدد مشاهد جهاد عبدو بطل العمل الذي يلعب دور المحقق.
رن الهاتف مطولاً قبل أن يخرج مروان من الحمام مسرعاً وهو يغطي عورته بمنشفة تحسباً من أن تكون الستائر مرفوعة في الغرفة ظناً منه أن الاتصال ربما يكون من شركة إنتاج ما وعندما اكتشف أن المتحدث هو صفوان وأن الستائر مسدلة ولا خطر على عورته من أعين الجيران والمارة أرخى المنشفة وارتسمت على وجهه ابتسامة فرح لأنه شعر أخيراً بسلطته في هذه الماكينة وترقرقت دمعة في عينيه وهو يشعر بالفرح في صوت صفوان وانتهت المكالمة بانحدار هذه الدمعة على خده فعاد وتناهى إلى سمعه من عمق منطقة اللاوعي أضغاث نشيد ما كان على الأغلب النشيد الوطني فوجد نفسه يقف بوضعية الاستعداد شامخ الرأس ناظراً إلى رايات تخفق في العالي صورها له لا وعيه ثم بعد ذلك مسح الدمعة التي توقف عند حافة فمه بقفا يده ورفع المنشفة ولفها على وسطه وعاد لإكمال حمامه.
صفوان فور جلوسه في سرفيس المزة المتوجه الى البرامكة أخذ يفكر بما سيفعله بالدور وكيف سيستخدم أدوات الممثل في جعله يصل إلى المشاهد بأحسن شكل فيكون بمثابة جواز سفره إلى الأعلى وأول ما فعله هو دفع نفسه إلى الأمام وإبقاء مؤخرته متكئة على طرف المقعد وفكر (هكذا تجلس الشخصية التي تنقصها الثقة بالنفس، على طرف المقعد) وطأطأ رأسه وتابع (تخفض رأسها ولا تجرؤ على النظر في وجه محدثها) ثم دفع نفسه إلى الخلف واتكأ على مسند المقعد وتابع تفكيره: (وهكذا تجلس الشخصية الواثقة من نفسها) ووضع رجلاً على رجل وتابع تفكيره: (هكذا) ثم عاد إلى وضعيته الطبيعية التي كان عليها وفكر:(يجب أيضاً ألا أغفل حركة اليدين، وأول شيء يجب أن أنتبه إليه هو عدم إبقاء يدي متجمدتين بعد أن أنهي جملتي حتى ينهي الممثل الآخر حواره أغلب ممثلينا النجوم يرتكبون هذا الخطأ أنا لن أرتكبه) وأخذ يقوم ببعض الحركات فضم السبابة مع الإبهام وفرد الأصابع الثلاثة الأخرى وفكر: (هذه إشارة تعني التهديد) يكفي أن ألوح بيدي هكذا ليفهم الشخص المقصود أنني أهدده ولا داعي أبداً لأقول أي كلام فمهنتنا في نهاية المطاف تعتمد على اللغة البصرية وطالما أن الممثل قادر على التعبير بالحركة فلا داعي للكلام المنطوق أبداً) وبعد القيام بعدة حركات بيديه أثارت انتباه الركاب، أخذ يفكر بحركات عضلات الوجه وأخذ يقوم بمحاولة تحريك وجنتيه وحاجبيه ونفخ خديه ثم أفرغ فمه من الهواء ليعودا إلى ما كان عليه وكان يفكر: (سأجعل خالد تاجا لا يشكل نقطة في بحري، سأحرق أخضر الدراما ويابسها) سائق المكرو لفتت انتباهه حركات الوجه التي كان يقوم بها صفوان فالتفت إلى الخلف وتساءل:
– هل يوجد مشكلة؟
– لا لا أبداً.
رد صفوان وأخذ يقلب صفحات السيناريو الذي بين يديه بنهم بحثا عن جُمل سمير وهو اسم الشخصية التي أسندت له ولكنه بعد أن قام بتفلية أسماء الشخصيات في عامود الشخصيات في الجدول مرتين أو ثلاث لم يعثر على سمير مما استدعى استغرابه قليلاً وجعله يشعر بنوع من السعادة إذ أن هذه الشخصية التي أسندت إليه على الأغلب غير قادرة على الكلام بمعنى آخر ستكون الحركة هي وسيلة تعبيره الأساسية وهذا سيفسح له المجال باستعراض قدراته كممثل ولكنه مع ذلك قرر الاتصال لقطع الشك باليقين فأخرج الهاتف واتصل بمروان مجدداً، ومرة أخرى خرج مروان من الحمام مسرعاً ولكن دون المنشفة في هذه المرة وبعد أن نشف يديه المبللتين بشرشف السرير فتح الخط وقال:
– الوو
وعندما سمع صوت صفوان شعر بالغضب وقال له:
– دعني أستحم يا أخي.
ولكن صفوان لم يعر اهتماماً لامتعاض مروان وسأله:
– من يكون سمير، أعطوني دور سمير.
– لا أعرف من هو سمير، هل تعتقد بأنني أحفظ أسماء جميع الشخصيات؟ ابحث عنه يا أخي.
– بحثت عنه فلم أجد أي حوار له هل عندك شخصية أخرس في الحلقة.
– لا ليس عندي شخصية أخرس.
– إذن إين سمير؟
– عندما تأتي نبحث عنه معاً، لا عليك.
أقفل مروان الخط وقام بتجفيف جسده وارتداء ملابسه مستغنياً عن فكرة الاستمتاع ببقية الحمام، بينما تابع صفوان البحث عن سمير في النص الذي بين يديه ولكنه لم يتمكن من فعل ذلك لأن متطفلاً يجلس قربه انتبه إلى أنه ممثل وأخذ يطرح عليه الأسئلة التي يتسم بعضها بالسماجة ويسبب بعضها الآخر الإحراج.
وعند وصول صفوان إلى البيت قام مروان بفتح الكمبيوتر والبحث عن شخصية سمير في النص وسرعان ما أخذ يقهقه ناظراً إلى صفوان:
– أنت سعيد بهذا الدور أليس كذلك؟
– أربعين مشهداً.
قال صفوان مبرراً سبب سعادته فقال له مروان:
– هل تعرف من هو سمير؟ إنه الجثة.
– الجثة؟
قال صفوان مصدوماً فأكد مروان له:
– نعم فأحداث الحلقة كلها تجري في مسرح الجريمة.
ومرة أخرى أصيب صفوان بالصدمة وحالة الاكتئاب التي يبدو أنه ألِفها ولكن مروان تمكن من إخراجه منها وإقناعه بلعب دور الجثة:
– ما المشكلة يا أخي إذا لعبت دور الجثة وحصلت على مبلغ يغنيك عن مد يدك لكل من هب ودب.
ثم صمت مروان وأشار إلى تفصيل آخر يهمه هو شخصياً حيث قال:
– ومن جهة أخرى تدفع حصتك من إيجار الشقة، فأنت منذ أربعة أشهر لم تدفع.
لعب مروان دور الجثة وحاول جاهداً أن يلعب على موضوع الكتلة وأن يشكل بطريقة انبطاحه على الأرض تكويناً مميزاً وجعل من الانطباعات الأخيرة على وجه القتيل تظهر الرعب الذي استحوذ على الشخصية قبل قتلها ورغم أن سامي نجمي مخرج العمل لم ينتبه إلى كل هذه الأمور ولم تكن الشخصية بالنسبة له أكثر من شخص ملقي على الأرض فإن صفوان قد تألق بذلك حيث بدا ميتاً فعلاً مما لفت إليه انتباه المخرجين والمنتجين وجعله منذ ذلك اليوم يلعب دور الجثة في الدراما السورية، مرة واحدة فقط وبعد لأي جعل مروان يكتب له جملة يقولها قبل أن يلفظ أنفاسه حيث قال قبل أن يسقط على الأرض بعد تلقيه الطعنة:
– آخخخخخ.