فراس السواح – الناس نيوز ::
في ميثولوجيا الشعوب هنالك نوع من الكائنات ذات شكل هجين يجمع بين الإنسان والحيوان، هي فوق البشر ودون الآلهة يمكن أن نطلق عليها تسمية أنصاف الآلهة.
من هؤلاء الحكماء السبعة في الميثولوجيا الرافدينية الذين تصورهم الأعمال الفنية في هيئة مزيج من إنسان وسمكة.
ومنهم الأفعى ذات الرؤوس السبعة التي قتلها الإله بعل الكنعاني، وأفعى معبد دلفي التي قتلها الإله أبوللو اليوناني، وثور المتاهة الكريتي الذي كان نصفه إنسان ونصفه ثور، والكروبيم في كتاب التوراة ومفردها كروب وهو كائن مجنح يجمه بين الإنسان والثور.
ويتكرر ذكر الكروبين في الكتاب، فأول ظهور لهم في قصة طرد آدم وحواء من الفردوس عندما وضع يهوه الكروبيم لحراسة الطريق إلى شجرة الحياة، وفي سفر حزقيال نجد أربعة منهم يطيرون بعربة يهوه التي حطت به عند نهر الخابور عندما زار الأرض.
ويرجع الكروبيم بأصلهم إلى ثقافة وادي الرافدين حيث نجد تماثيل عملاقة لهم براس إنساني وجسم ثور يحرسون مداخل المعابد والقصور الملكية، كما نجدهم أيضاً في منحوتات الثقافة الكنعانية لاسيما في السامرة وفينيقيا، وأقدم شكل لهذه الأرواح الحارية هو تمثال أبي الهول الذي يحرس الهرم الأكبر في صحراء الجيزة بمصر، وهو على هيئة اسد برأس انساني ولكن دون أجنحة.
وقد يكون الكائن الخيالي طيراً عملاقاً ذا طبيعة إلهية وقوة خارقة، والنموذج الأبكر له هو طائر الأنزو البابلي الذي يصوّر غالباً براس أسد، لأنه في اصله السومري الأبكر كان يدعى إمدوجد/ imdugud، الغيمة السوداء الرعّادة التي تُصدر زئير الأسد قبل أن تسقي الحقول.
والاسم آنزو مؤلف من مقطعين الأول آن وهو اسم إله السماء البابلي وفي الوقت نفسه يدل على السماء بشكل عام والثاني زو ويعني طائر، ولذلك يمكن ترجمة الاسم إلى الطائر السماوي. ولدينا أسطورة بابلية ترجع نسختها الأولى إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد تتحدث عن ميلاد آنزو في المراحل الأولى لخلق العالم، وما يتمتع به من قوة خارقة، الأمر الذي دعا الإله إنليل إلى تعيينه حاجباً له يقف على بابه وينفذ أوامره.
كان إنليل أقوى آلهة المجمع وأكثرهم نفوذاً بسبب امتلاكه لألواح الأقدار، التي تعطي من يحوزها على سلطة مطلقة على عالم الآلهة والبشر. وقد بلغ من ثقة آنزو بنفسه أنه رغب في حيازة هذه الألواح ليحل محل إنليل فيأخذ لنفسه ما يتمتع به من سلطة.
وعندما نزل إنليل في الصباح ليستحم في ماء البركة المقدسة تاركاً تاجه وثيابه على العرش، انقض آنزو على ألواح الأقدار فسرقها ولجأ إلي الجبال العالية. ذُعر الآلهة للخطب الجلل واجتمعوا للبحث عن حل، فقال لهم كبيرهم آن: « إن الإله الذي ينبري لقتال آنزو سيكون معظماً بين الآلهة وتنتشر عبادته في الجهات الأربعة ». ثم دعا الإله آداد للقيام بهذه المهمة، فقال له آداد: « من يا ابتاه قادر على الانطلاق إلى تلك الجبال العصية، من بين الآلهة جدير بقهر آنزو؟ لقد استولى على قوى إنليل وعلينا جميعاً أن نخشاه ». فراح أن يعرض المهمة على بقية الآلهة واحداً واحداً ولكنهم استنكفوا عن القيام بها، إلى أن وافق تنورتا أخيراً على المضي لمواجهة آنزو، فجهز الرياح الشيطانية السبعة والزوابع السبعة وانطلق إلى جبال آنزو والرياح الهوجاء تزعق إلى جانبه، وبعد صراع مرير بين الطرفين نال تنورتا من آنزو وصرعه واسترد الألواح المسروقة.
فإذا انتقلنا من الثقافة الرافدينية إلى الثقافة الإيرانية توأمها الشرقي، نجد الطائر العملاق سيمورغ/ simurgh القريب من إمدوجد السومري، الغيمة الرعادة السوداء التي تبشر بالخير وتسقي الحقول في أوائل الربيع.
وقد ولد سيمورغ مع بداية الكون مثل آنزو البابلي وشهد دمار العالم وإعادة خلقه ثلاث مرات، وهذا ما أكسبه حكمة كل العصور وجعله وسيطاً بين السماء والأرض التي يجلب إليها الخير والبركة والخصب فهو يطير من مواطنه الجبلية ويحط على شجرة الشفاء وكل البذور، التي زرعها الإله الخالق مع شجرة الحياة الخالدة في وسط المحيط المائي الكبير، فإذا صفق بجانحيه وطار انتثرت بذورها وحملتها الرياح إلى الجهات الأربعة لتتحول إلى أشجار ونباتات متنوعة وأعشاب شافية من كل مرض. وتقول إحدى الروايات أنه إذا أكمل دورة حياة مقدارها 1700 سنة تنبعث منه نار تحوله إلى رماد ومن رماده ينبعث إلى حياة جديدة.
تصوره الأعمال الفنية برأس كلب أو برأس إنسان، أما ريشه فنحاسي لامع، وهو من القوة بحيث يستطيع رفع ثور أو فيل، وفي بعض الرسوم نجده واقفاً على كتف ولي عهد المملكة، في إشارة إلى قبول الإله آهورا مزدا له واعتباره ممثلاً له على الأرض. وعلى الرغم من هيئة الطيرية إلا أنه من الثديات ويرضع صغاره ويُشار إليه دوماً بصيغة المؤنث. وقد استمر السيمورغ حاضراً في الأدب والفن طيلة تاريخ الحضارة الإيرانية وصولاً إلى العصر الإسلامي، حيث نجده في ملحمة الشاهنامة للفردوسي في سياق عدد من القصص، وعند الشاعر المتصوف فريد الدين العطار في كتابه منطق الطير. فلقد وجد متصوفة الفرس فيه رمزاً لمعرفة الله. كما نجد السيمورغ في آداب وفنون المناطق التي تأثرت بالحضارة الفارسية مثل أذربيجان وأرمينيا وجورجيا وشعب التات في القوقاز وشعب الكرد.
في مصر القديمة يحمل الطائر الميثولوجي بينو/ pinnu العديد من سمات الطائر الإيراني والطائر الرافديني، فهو طائر إلهي شمسي خلق نفسه بنفسه، وكان موجوداً قبل خلق العالم يرف فوق مياه الغمر البدئي العظيم، ثم لعب دوراً في خلق العالم إلى جانب آتوم الأب الأول الذي أنجب السماء نوت والأرض جيب؛ فقد وقف بينو على صخرة في البحر وأطلق صرخة حددت طبيعة الخلق القادم، ثم راح يجدد نفسه بنفسه مثل الشمس في كل غروب وشروق. يبدو في رسوم المملكة الحديثة في هيئة مالك الحزين، بلون رمادي مشوب بالزرقة ومنقار طويل وعرف على شكل ريشتين وعلى رأسه تاج الفراعنة. اتصلت عبادته بعبادة الإله آمون الشمسية والإله أتوم في مدينة الشمس هيليوبوليس أو آون في موقع عين شمس الحالية.
إذا تركنا الشرق الأوسط وتابعنا بحثنا شرقاً عن الطائر الميثولوجي العملاق نجده في الهند وجنوب شرق آسيا في طائر الجارودا/ garuda ، وهو طائر ذو طبيعة شمسية كان في المرحلة الفيدية من تطور دين الهند سائقاً لمركبة إله الشمس صوريا، ثم صار في الهندوسية الكلاسيكية مركبة للإله فيشنو.
تصوره الأعمال الفنية إما على هيئة صقر على أهبة الطيران بعينين واسعتين وجناحين بلون الذهب البراق، أو على هيئة إنسان له بعض ملامح الطير.. وهو قادر على تغيير شكله والطيران بسرعة فائقة إلى أي مكان، وقد نجد بين مخالبه صندوقاً يحتوي على شراب الخلود الذي يتناوله الآلهة.
وقد انتقل الجارودا إلى البوذية مع ما انتقل إليها من رموز ومصطلحات الديانة الهندوسية، وصار جزءاً من منظومتها الرمزية، كا صار جزءاً من المنظومات الرمزية لدول جنوب شرقي آسيا مثل نيبال وتايلند وكمبوديا. وفي إندونيسيا تحول إلى رمز وطني وشعار للدولة، ودعيت شركة الطيران الوطنية باسم غارودا إندونيسيا، وباعتبار دوره كناقل للمعرفة فقد اتخذت منه أكبر جامعات إندونيسيا رمزاً لها، وصُنع له في جزيرة بالي تمثال ضخم من النحاس الأصغر اللامع طوله 18 متراً.
وفي الصين (وبقية مناطق شرق آسيا) لدينا الطائر الجبار الخالد المولود من الشمس فينغ هوانغ ، وهو طائر ميمون يرمز إلى السعادة والحظ الطيب، ولا يظهر إلا في الأماكن التي تتمتع بالأمن والازدهار والسعادة والسلم. وقد بدأت صوره تظهر في الصين منذ عصورها الحجرية محزوزة على الأواني الفخارية أو حجر الجاد الكريم.
وقد اختلفت هيئته عبر العصور ولكنها استعارت دوماً من عدة أنواع من الطيور بينها الحجل والبط والطاووس والببغاء والسنونو والكركي، وفي ريشه تجتمع الألوان الرئيسية الخمسة التي تُعبر عن الفضائل الرئيسية الخمسة في الكونفوشية وهي الأبيض والأسود والأحمر والأصفر والأخضر. وقد يحمل بين مخالبه درج من ورق أو كتاباً لكونه ناقل المعرفة عبر العصور.
نعود من رحلتنا الشرقية لنتجه غرباً وراء طائرنا العجيب، ففي الثقافة اليونانية الرومانية هو الفينيق/ phoenix الذي يرمز إلى الحياة المتجددة التي نراها في القمر والشمس ومظاهر الطبيعة الحية، فالقمر يموت في كل شهر ثم يبعث إلى شهر جديد، ولذلك يدعى القمر شهراً في اللغة العربية: { من شهد منك الشهر فليصمه } قرآن كريم، وكذلك في اللغات الأوربية كقولهم honey moon أي قمر العسل. أو شهر العسل، والشمس تموت في كل يوم ثم تبعث إلى يوم جديد، ولذلك كان كهنة المعابد المصرية يقيمون طقوساً خاصة قبل الفجر لعون إله الشمس على الانبعاث وقهر الوحش السماوي آبيب الذي ينتظره للانقضاض عليه. وحبة القمح الميتة تزرع في الأرض ليحل قمح السنة الجديد محل قمح السنة الماضية الميت.
فالفينيق طائر خالد يجدد حياته كل خمسمئة سنة، وقد تناقل المؤلفون الكلاسيكيون من أمثال هيرودتس ولوقيان وبيلليني الأكبر ولاكتانيوس أخبار هذا الطائر ورووا أسطورته. ووفق وصف هؤلاء المدعّم بالرسوم التي تركها لنا الفن الكلاسيكي، فإن للفينيق شكل الصقر وحجم النعامة ولون ريشه بعضه أرجواني (= phoenix باليونانية) وبعضه أصفر ذهبي. وتحيط برأسه هالة نورانية لها سبعة أشعة هي رمز هليوس إله الشمس.
عندما يشعر الفينيق بدنو أجله يطير إلى بلاد العرب فيجمع من أغصان شجر المر واللبان وبقية الأشجار ذات العرق الطيب ويعود بها ليصنع له عشاً يجثم فوقه، ثم ترتفع حرارة جسده حتى تلتهب من تحتها الأغصان العطرة وتأتي على الطائر الذي يتحول إلى رماد، وبعد ثلاثة أيام ينبعث من ذلك الرماد طائر جديد. وأول ما يفعله الطائر الجديد هو أن يصنع بيضة من الأغصان التي استعملها للمحرقة يضع فيها رماد الطائر القديم ثم يختمها ويطير بها إلى مدينة هليوبوليس (أون المصرية) فيضعها على مذبح إله الشمس رع ثم ينطلق إلى دورة حياة جديدة.
وقد استمرت رمزية الفينيق خلال العصر المسيحي اللاحق في أوربا وجرى اعتباره رمزاً للسيد المسيح في موته وبعثه، لاسيما بعد اكتمال الرمزية الشميسة للمسيح والمطابقة بين يوم مولده ويوم ميلاد الآلهة الشمسية. وفي العصور الوسطى لاسيما لدى الروس والشعوب السلافية الأخرى، استمرت هذه الرمزية من خلال الطائر المعروف بطائر النار fire bird الذي كان موضوعاً للحكايا الشعبية، ويوصف بأنه طائر على هيئة صقر له ارياش ضخمة يصدر عنها ضوء أحمر وبرتقالي واصفر، وهذه الأرياش لا تتوقف عن إصدار الضوء حتى عندما يجري انتزاعها من الطائر، وبإمكان كل ريشة أن تضيء غرفة كبيرة، وقد جاء هذا الطائر من الأصقاع البعيدة وحضوره يجلب اليُمن والبركة. وقد صار لطائر النار هذا حضور في الأدب والفن السلافي، وقام المؤلف الموسيقي إيغور سترافينسكي (1882- 1971) ،وهو واحد من أهم الموسيقيين وأكثرهم تأثيراً في موسيقى القرن العشرين، بوضع عمل موسيقي ضخم للباليه دعاه طائر النار، معروف لدى عشاق الموسيقى الكلاسيكية لدينا باسم عصفور النار.