ميديا – الناس نيوز ::
محمد صبرا – تلفزيون سوريا – وأخيراً عاد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة “سابقاً، وهيئة التفاوض السورية “سابقاً”، إلى أرض الوطن، لكنهم لم يعودوا من ساحة الأمويين التي يحتشد فيها السوريون احتفالاً بسقوط نظام المجرم الهارب، ولم يعودوا من نبض الشارع السوري، ولم يعودوا من باب شرقي أو باب توما وباب الجابية والباب الصغير، بل عادوا من باب بعثة الاتحاد الأوروبي في دمشق، ليكون أول ظهورهم وهم يهبطون درج مقر البعثة، مصحوبين بالقائم بأعمال هذه البعثة السفير ميخائيل أونماخت، وبكثير من الابتسامات والفخر الذي لا يخفى على أعين الناظرين، وبعيداً عن هذه الصورة الرمزية التي تختزل مسيرة ائتلافٍ، قام على إدارة ظهره للسوريين،
وفتح يديه وقلبه وآذانه وعقله للسفراء، أقله في السنوات السبعة الأخيرة ، فإن ما يهمنا في هذا الصدد هو لماذا عادوا، وبماذا يفكرون، وهل سيبقون على رهانهم القائل، بأن الحل في سوريا هو في يد سفراء وقناصل الدول، وأن خارجيات الدول هي التي ستفرض توازنات المعادلة السياسية في البلاد، وأنها هي من ستمنحهم أدواراً تنسجم مع تطلعاتهم وطموحاتهم الشخصية..؟!
للأسف لا أملك إجابة على هذه الأسئلة التي دارت في ذهني وأنا أشاهد صورتهم على درج مقر البعثة الأوروبية في دمشق، لكني وكما قلت سابقاً في أكثر من لقاء أن يوم 8/ ديسمبر لم يشهد سقوط نظام المجرم الهارب فحسب، بل شهد في حقيقة الأمر سقوط المعارضة أيضاً، فهذا اليوم شهد بداية ولادة سوريا جديدة يختلف فيها السياق السياسي عن سابقه، فنحن الآن لسنا أمام حالة انتقال سياسي، تتطلب وجود نظام ومعارضة، بل إننا أمام لحظة ولادة أمة وشعب ودولة .
مهمتنا الآن أن نبدأ بعملية بناء اجتماعنا السياسي السوري، وأن نحدد شكل هذا الاجتماع والعقد المؤسس له، أي الدستور، وهذا البناء لا يمكن أن يتم إلا عبر ممثلين حقيقيين للسوريين، يعبرون عن شبكة التوازنات والتفاهمات والمصالح المجتمعية المختلفة، وقد آلمني كثيراً، التصريح الذي أدلى به السيد هادي البحرة لمحطة العربية في 31/كانون الأول، عندما قال إن الدستور لا يحتاج لأكثر من ستة أشهر لكتابته لأننا لن نبدأ من الصفر على حد قوله، وأنه “لدينا عشرات الوثائق والفصول الجاهزة، ومشاريع الدساتير”، هذا التصريح الصادر عن رئيس الائتلاف الوطني لدورتين، والرئيس المتمترس في اللجنة الدستورية لأكثر من خمسة أعوام، دفعني لكثير من القلق والشفقة، القلق على مستقبل البلاد، والشفقة على حلم مشروع بناء الدولة التي ضحى السوريون بمهج القلوب وبماء العيون وبملايين الشهداء والجرحى والمهجرين والمعذبين في السجون، فأن يصدر مثل هذا الكلام عن الرئيس المتمترس في اللجنة الدستورية التي أسستها روسيا في مؤتمر سوتشي عام 2018، هو دليل على الخفة والاستخفاف بموضوع الدستور، بل ربما تكون تعبيراً عن عدم إدراك حقيقي وشامل لمفهوم الدستور بحد ذاته، فرئيس اللجنة الدستورية خلط بين الوثائق التي أنتجتها ” ورش العمل الكثيرة” وذلك حسب قول السيد البحرة نفسه، وبين الدستور، وأي مبتدئ في القانون أو علم السياسة يعلم أن الدستور هو مجموعة التفاهمات المجتمعية التي تحكم المصالح المختلفة في المجتمع، والتي تحدد طبيعة الاجتماع السياسي لشعب ما، وأن هذه التفاهمات هي التي يتم صياغتها لاحقاً بشكل مكتوب أو أن تبقى غير مكتوبة، كما هو الحال في بريطانيا مثلاً التي لا يوجد فيها وثيقة مكتوبة، لكنها تملك دستوراً عرفياً متفقاً عليه، وعندما يقول السيد البحرة أنه لدينا فصول جاهزة من الدستور، يثور السؤال، ما هي التفاهمات المجتمعية التي تعبر عنها هذه الفصول، وكيف تم التوصل لها، وهل يكفي عقد ورشة عمل – أو ورش عمل- من متدربين لنقول أنها تمثل المصالح الحقيقية للسوريين.
إن اختزال الدستور إلى عملية تقنية خالصة، خالية من كل دلالة مجتمعية، يتجاوز مفهوم الخطأ ليصل إلى حدود الخطيئة، وللأسف كثير من الآراء التي أسمعها، تعبر عن هذا الفهم المغلوط، حتى أن الإدارة العسكرية الانتقالية الحاكمة حالياً في سوريا، تتحدث بمنطق شبيه بهذا المنطق، عندما يقول قائد هذه الإدارة السيد أحمد الشرع من أن هناك لجان قانونية متخصصة ستضع دستور البلاد.
إن وضع دستور البلاد، يختلف عن صياغة الدستور، فوضع الدستور هو مهمة الأمة التي يمثلها هيئة تأسيسية يتم انتخابها سواء بالانتخاب الشعبي المفتوح أو بالانتخاب المقيد، وهذه الهيئة التأسيسية يجب أن تعمل وفق التفاهمات التي يتوصل إليها مؤتمر الحوار الوطني، الذي يجب أن يضم الممثلين الحقيقيين عن شبكة المصالح والتوازنات السياسية والاقتصادية والمجتمعية السورية، وعملية البدء بوضع الدستور وهو القانون الأسمى في البلاد، والذي سيحكم كل القوانين الأخرى، تبدأ بتحديد الحاجات التي يجب تلبيتها، والمصالح التي يجب حمايتها وضمانها قانوناً، فالخطوة الأولى هي حصر هذه الحاجات والمصالح ومن ثم تقييمها بشكل عام لمعرفة ما يجب الاعتراف به كقيمة أساسية في المجتمع، ورسم حدود فاعلية هذه الحاجات والمصالح، بالنسبة للمصالح الأخرى.
فالدستور يجب أن يكون التعبير الأصدق عن جوهر العلاقات في المجتمع المنظم سياسياً، وكتابة الدستور لا تكون عبر انتقاء النص الأجمل أو العابرات البراقة، أو تجميع النصوص من مدارس فقهية وقانونية مختلفة، لأن أي مجتمع يرتكز في اجتماعه السياسي على مجموعة من العناصر الأخلاقية والفلسفية والمادية، ويعرف نفسه وفقا لهذه العناصر، فالمجتمع الأميركي مثلاً يضع أساس اجتماعه السياسي هو الحرية الاقتصادية، وبالتالي فإن الدستور الأميركي ومجموعة القوانين الأميركية، تجعل من حرية الإرادة البشرية هي القيمة الأسمى الأولى بالحماية، ومنها تنبثق كل المنظومات القانونية الأخرى، بينما المجتمع الفرنسي مثلاً يضع فكرة السيادة الشعبية أو سيادة الأمة والتي تتجلى في الدولة، كقيمة أعلى وبالتالي فإن الدستور الفرنسي ومجموعة القوانين تأتي تلبية لحماية هذه القيمة والتي تنبثق عنها كل القيم الأخرى، وبعيداً عن الإغراق في الشروحات القانونية، فإن لكل أمة من الأمم مجموعة من القيم الأساسية التي تحكم عملية وضع الدستور، ويأتي الدستور لتحقيق الغاية التي تتوخاها الأمة، فالدستور والقانون عموما هو ابن الحاجة، وليس ابن الرغبة، أي أنه يأتي لتنظيم الحياة في مجتمع سياسي منظم.