د. غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
قلة هم الأدباء والكتاب الذين عرفوا بولعهم برياضة من الرياضات، أو جمعهم بين الكتابة والممارسة المحترفة لنشاط بدني بعينه، ولطالما سادت صورة نمطية عن التنافر بين عوالم الرياضة والإبداع لما تتطلبه الأولى من التزام، وتستوجبه الثانية من انغماس، ما يرفع الجمع بين الاثنين لدرجة الخيانة.
تعد تجربة الياباني هاروكي موراكامي 1949 من بين التجارب النادرة التي احتفت بالرياضة، الجري تحديداً، وتأثيرها في تكوين ومسار الكاتب صراحة، في عصر يحتفي بالجسد والصحة ويعتبر ممارسة الرياضة ضرورة لتحقيق الكمال. أما الجزائري كاتب ياسين فيرى الشاعر ملاكماً، بحسب قصيدة شهيرة له، ستمنح عنوانها لكتاب معروف. وقد كان الفرنسي المولود بالجزائر، صاحب نوبل للآداب 1957، ألبير كامو (1913-1960) من بين القلائل الذين لم ينكروا فضل كرة القدم على مسارات حياتهم. هو الذي عشق الركض خلف الكرة صغيراً بشوارع بلكور، الحي الفقير الذي ترعرع فيه، ما جعل جدته تقنن وقت لعبه حتى لا يهترئ حذاؤه، ثم منعه مرض السل، الخطير حينها، من مواصلة اللعب في صفوف النادي الجامعي راسينغ ألجي في بداية شبابه، النادي الذي سيحمل كامو طويلاً حنيناً إليه، هو الذي لطالما كرر أن الاستادات هي مكان السعادة المطلقة.
لن نعرف إن كان صاحب “الغريب” سيحافظ على موقفه من كرة القدم لو عاش أطول، بعد أن تجاوزت تداخلها مع السياسة، إلى تمحور الاقتصاد حولها في محاولة لتدجين ممارساتها التقليدية. ما جعل الصحفي الفرنسي لوران دافيد ساماما يذهب إلى إقامة مقارنة بين التطويرات التي طالت الرياضة الأكثر شعبية في العالم، من استخدام للتقنيات، وتعقيد في القوانين، إلى قضاء رأس المال على خصائص التشجيع التقليدي، وبين عوالم الصناعات الإباحية في كتاب مثير صدر منذ أزيد من سنة حمل عنوان “فوت بورن”، واعتبر مانيفستو في وجه التصنيع المتزايد الذي يطال كرة القدم، كما لن نعلم موقف فيلسوف العبث من استقلال الجزائر بصراحة، هو الذي سيظل اسمه مرادفاً لها في عوالم الأدب، إذ يعتبر الكاتب الجزائري الأكثر جماهيرية في العالم، على الرغم من عدم اعتراف جزائريي الاستقلال بانتمائه، في جزائر ستلاحقها لعنات كرة القدم بأفراحها وأدمعها، هي التي بدأت رحلتها الفعلية مع هذه الرياضة بتأسيس فريق جبهة التحرير الوطني لكرة القدم زمن الثورة، بعد أن أسلفته فرق كرة قدم محلية كثيرة عرفت بفرق المسلمين وعانت من العنصرية الكولونيالية، كما وجدت فرق هجينة، الفريق الذي سيؤسس له محمد خميستي، الرجل الذي سيحمل اسمه المربع الأشهر في الجزائر العاصمة المستقلة، سيغتال سنوات بعد الاستقلال ولن يعرف سبب ولا مرتكب الجريمة.
يتردد صدى كرة القدم في اليومي الجزائري كما في الفن، بل إن أشد ما يميز كرة القدم الجزائرية ليس تميز لعبها، ولا ألقابها، بل الجماهير التي تتعاطى مع اللعبة، والتي لطالما وظفت سياسياً، حتى كادت مباراة كرة القدم الحاسمة للتأهل لمونديال 2010 أن تعصف بالعلاقات بين الجزائر ومصر أواخر سنة 2009، في توظيف سياسي محموم وغير مسبوق من نظامي مبارك وبوتفليقة.
عرفت سنة 2018، وهي السنة التي حقق فيها الفريق الوطني الجزائري للفوتبول أفضل نتائجه في تاريخ كأس العالم بقيادة مدرب بوسني، صدور عملين فنيين مهمين، تمثل الأول في رواية سيرية حملت عنوان “يوم رأيت بيليه”، كتبها الروائي الجزائري عبد القادر جمعي والثانية فيلم قصير أنجزه فريق مختلط عنوانه “فريق نفطة الكروي”، عرف مشاركة الجزائريين: إلياس سالم وهشام مصباح.
يحكي جمعي في رواية يوم رأيت بيليه قصة مراهق ذي سبعة عشر ربيعاً، سيذهب بمفرده لحضور مباراة كرة القدم التي انتظرها بشوق كما الكثير من الجزائريين، جمعت بين الفريق الوطني الجزائري لكرة القدم والفريق البرازيلي بنجومه من بيليه إلى غارينشا، مروراً بأورلاندو وسانتوس، بملعب وهران البلدي.
الودية التي سيحضرها رئيس البلاد أحمد بن بلة آنذاك، الذي بدوره كان نجم كرة قدم، لعب لصالح نوادي أوروبية شهيرة كأولمبيك مرسيليا، يوم 17 حزيران 1965، والتي سيخسرها الفريق الوطني بنتيجة 3 إلى صفر، كما سيخسر بن بلة منصبه كرئيس للبلاد، في الليلة التي عاد فيها من وهران إلى العاصمة، بعد الانقلاب الذي قاده ضده وزير دفاعه ومن سيصبح ثاني رؤساء البلاد المستقلة العقيد هواري بومدين.
يرسم جمعي بعيون المراهق الذي كان يومها، أدق تفاصيل مدينة وهران، التي قدم إليها صغيراً رفقة عائلته ليعيش في أحد المحتشدات، قبل أن ينتقل إلى إحدى السكنات التي خلفها المعمرون إذ فروا خارج الجزائر بمجرد استقلالها. يسرد جرائماً كان شاهداً عليها، يحكي تفاصيل الحياة الاجتماعية، ولعه بكرة القدم هو ورفاقه، ما كتبته الصحف وقالته الإذاعات عن تلك المباراة الحماسية، انتظاره الطويل لرؤية اللؤلؤة السوداء، أبرز الأخبار التي تصدرت وسائل الإعلام حينها، قبل أن ينصدم بالإهانة التي تعرض لها رئيس البلد المستقل حديثاً، والذي كان يحظى بكثير من التوقير بين المواطنين، إذ رُمي بكل ما حملته أيدي بعض الحاضرين في الملعب احتجاجاً ظاهرياً على نتيجة المباراة، وسياسات الرئيس الحاضر.
النادي الكروي للمخرج الفرنسي إيف بيا رسم لوحة أخرى عن كرة القدم جنوب المتوسط. الفيلم القصير الذي افتك جائزة سيزار عن فئته سنة 2018، يحكي قصة شحنة كوكايين ضالة على الحدود بين الجزائر وتونس، يقودها حمار بين البلدين تتسبب هفوة أحد المهربين في تشغيل الأغنية المناسبة، حتى يشق الحيوان طريقه نحو وجهته، شغل أغنية لالشيخ عادل عوض أغنية آديل التي تعود عليها الحمار، ليعثر عليه طفلان يتيما الأم ويعجبا بالسماعات التي يرتديها. يخبر أكبرهما بعض أصدقائه عما وجده، ويداري الشحنة ببيتهم، في غياب الوالد الذي يلاحق لقمة العيش وسط ظروف قاسية، مقنعا أخاه الأصغر بأنها شحنة مسحوق غسيل، فيقرر الأخير أن يرسم بها حلمه، إذ يحدد بها ملعب كرة القدم الذي سيركض فيه برفقة أصدقائه. الفيلم صدر في السنة التي شهدت إيقاف أكبر شحنة مخدرات تلج الجزائر في تاريخها، عبر ميناء وهران، حيث تم احتجاز أزيد من سبعة أطنان من الكوكايين، القضية التي ستوظف سياسياً في معركة تكسير عظام بين أصحاب المصالح والنفوذ، وسيتردد صداها في السنة اللاحقة، بعد إعلان بوتفليقة ترشحه لولاية خامسة، في أجواء فساد غير مسبوقة. اختزل الفيلم القصير الكثير عن واقع المقهورين على الضفة الجنوبية، عن استشراء الفساد، ضيق الأفق، عن الأحلام الصغيرة، ومحورية الكرة في حياة لا تهدي بدائل.
ساعات قبل إطلاق المونديال العربي الأول في التاريخ، لا تزال خيبة إقصاء الفريق الجزائري في اللحظات الأخيرة من المقابلة ضد الفريق الكاميروني تتردد في الشارع الجزائري، بعد إنجاز مميز قبلها بأشهر في تحصيل اللقب العربي في قطر، هي التي جرت بالموازاة مع فعاليات صالون الجزائر الدولي للكتاب شهر مارس/آذار الفائت، والتي عاشها الجزائريون كرواية أو فيلم بنهاية تعيسة، خسفت دقائق المباراة الأخيرة بأحلام بلوروها لأربع سنوات كاملة، معيدة إلى الأذهان مقولة أخرى لكامو: “في الكرة لن تصل الأهداف أبداً حيث تنتظرها”.