ريما بالي – الناس نيوز ::
“ما زلت أمسك برائحة أصابعكَ
تلك التي أشعلتْ حرائقاً في غابات عنقي
آخر رشفات النبيذ التي سرت في جسدي الذي تشكل بين يديك
رائحة معطفكَ الرمادي
الذي سحب هواء رئتي عندما ودعتني
والبقعة التي تركها كحلُ عيني الذائب على كتفك الأيسر
ما أزال أمسك بكل هذا
دون أن تكون معي
لأخبركَ أن ظهري الذي أوليته لكَ
في تلك الليلة
يطعن في الانكسار
وأنه ما من أحد لدي
لأدفن وجهي في صدره
وأبكي كل هذا الوجع”.
تلك الكلمات الناضحة بالصور السوريالية والمشاعر، هي اقتباس من قصيدة بعنوان “بقلب متفحم” للفلسطينية أماني أبو صبح.
من قلب الضفة الغربية المحتلة تكتب، أو بالأصح، تشعر، وتترجم مشاعرها حروفاً وكلماتٍ وجملاً وقصائد، فتضعضع صورها جدار الواقعية لتصل إلى قلب الخيال النائم في وجدان القارئ، فتوقظه.
أماني أبو صبح، كاتبة وشاعرة ولدت في القدس المحتلة. تحمل شهادة ماجستير في علم النفس المجتمعي من جامعة بير زيت، وشهادة ماجستير ثانية في مجال تنمية وتطوير المؤسسات من جامعة سانت إدوارد في أوستن تكساس، الولايات المتحدة الأميركية.
لأماني العديد من النصوص والمقالات المنشورة إلكترونياً باللغتين العربية والإنكليزية. كما فاز نص لها بعنوان “في ركب القيامة”، ونُشر بالإنجليزية في نسخة ورقية للمجلة الأدبية التابعة لجامعة سانت إدوارد في أوستن، تكساس، والذي كان من أفضل عشرة نصوص للعام 2015.
عرفتها ضمن أحد أندية القراءة التي أنتمي إليها، أذهلني شغفها ونشاطها في التهام وهضم الكتب، وأثار اهتمامي وحماسي وجودها في فلسطين المحتلة بحد ذاته، الوطن الحزين الذي لم أره بعيني وإنما سكن وجداني كأيقونة تختزل كل الرموز السامية والقضايا الإنسانية قبل القومية. أعجبني فكرها وطريقتها في تلقي الإبداع وذائقتها الأدبية، عرفت أنها شاعرة فلم أستغرب، وإنما تأسفت لعدم اطّلاعي على أعمالها سابقاً فسعيت بشوق لذلك. ولأن ما قرأته أمتعني وحرّك أحاسيساً متنوعة في روحي، شعرت بأهمية أن أشارككم هذه المتعة الفكرية والروحية.
خطيئة كبرى، أن لا ينشر الفن الجميل النقي في هذا الفضاء المسموم وهذه الأرض العطشى. خسارة كبرى أن لا يجد طريقه إلى الأفئدة الذواقة، وأضعف الأيمان أن يساهم بذلك من استطاع إليه سبيلا.
من مجموعتها الرائعة، اخترت بصعوبة ثلاث قصائد لهذا اليوم، على أمل أن أثير شهيتكم للبحث عن أعمال أخرى لأماني والاستمتاع بها:
امرأة يابسة
كم من أرض في هذا العالم
نفترشها
نبثُّ فيها خيانة الأصدقاء
وقسوة الذين أحببناهم وتركونا للغياب
كم من غريق
أخطأه دعاء الأمهات
فأكله البحر؟
*
متخمون بالجراح
بصرخات النساء
تحت نعال الجنود الذين يدوسون أفخاذهن
وأرواحهن
برؤوس الأطفال التي أكلتها
أفواه الكلب الضالة
*
من الذي خنق الهواء في صدورنا
وقتل البحر في أعيننا؟
*
كل شيء يحمل الدموع إلى عيني
حينما تطعنني البلد
في خاصرة الأغاني التي طالما
أثارت حنيني إليها
*
كل الذين راحوا في الغياب
ذهبوا وحدهم
تاركين لنا وجوههم
حلموا بالهواء
مخلفين لنا الريح
تصفر في يباب قلوبنا
لفرط ما اقتاتت وجوهم
على قمح أصابعنا
*
يمتلئ فمي بالجثث
بصرخات المصلوبين على حافة الرواية
وكأي امرأة وحيدة
أموتُ يابسة لا ماء في قلبي
لفرط ما راهنتُ
على الذين أحببتهم
وخذلوني.
وعن أطفال فلسطين، وعن شهدائها، وعن وجدان امرأة تركها موت الأحبة وأسر الوطن في وحدة جارحة، كتبت أماني:
إنهم يموتون وحسب.
يصعدون إلى السماء
واحداً تلو الآخر
أولئك الأطفال
الذين أكلت البنادق
رؤوسهم
بينما أختبئ
تحت سريري
كخلد
منتظرةً أن يعبر الله
شارع حينا
*
في الطريق
شمسٌ رمادية
وبرك من مطر كبريتي
أمهاتٌ يجلسنَ على قارعات الطريق
استعداداً لفصل آخر
من فصول
النحيب
*
بأي نكهة كان طعم الهواء
الذي تذوقته قبل أن تموت؟
يسأل المَلَكُ الجالس على كتف الطفل
الذي هشمت القذيفة العنقودية
قفصه الصدري .
*
هناك
على الطريق
الذي اعتادت فيه نساء حينا
ابتداء صباحهن بالقهوة
وأحاديث لياليهن الحمراء
هناك تحديداً
بكى الله
عندما تعثرت قدماه
برأس طفل
مثقوب الجبين
*
إنهم يموتون
الذين نحبهم
فرادى وجماعات
يخطفهم الموت
إنهم يموتون
متخمة بطون المقابر بأجسادهم الجميلة
إنهم يموتون
تاركين قلبي وحيداً
وشحيح البصر
لكثرة ما بكى غيابهم
*
أبحث عنها
إنني أبحث عن أتفه الأسباب
كي أؤمن بأي شيء
أي شيء يجعلني أتشبث بهذه الحياة
التي تشرب دماءنا
كإسفنجة
أي شيء أؤمن به
كي أكف عن تدريب نفسي
كلُّ يوم
على الانتحار.
وعن هذيان المواطن الفلسطيني، السوري، اللبناني، العراقي، اليمني، السوداني، ال….، المواطن العربي الذي يتسلى بالفرجة على دمه المسفوح على شاشات التلفاز:
مشاريع مؤجلة للموت
كأي إنسان بائس
في هذا العالم المتعَب
أتوكأ على دمي
المسفوح
على شاشات التلفاز
*
الأصدقاء والأعداء
على حد سواء
يحبوننا
حينما نموت
*
ممتلئةٌ أنا
وكثيفة
بهذا الكم
الهائل
من الخراب
*
مهووسةٌ بفكرة الموت
لكنني أتراجعُ هلعاً
كلما تعثرتُ
بجثة قط منتفخة
في حاوية قمامة
*
أختنقُ فيها
تلك المصائب التي تهدينيها الحياة
فأنكسرُ كقصفةِ سرو جافة
*
ينتقم منا الأنبياء
كل يوم
لأنهم لم يموتوا على
عظام صدورنا
*
شيطانٌ وإله
يتنازعان
داخل رغبتي
في حز عنق امرأة
تعبر الآن
شارع بيتنا
*
تُسقطنا الحياة من بين أصابعها
كطيور ميتة
ويمضي العالم من دوننا
بلا مبالاة
كامرأة تشرب
شاياً أخضر
على شرفة بيتها
*
إنه لشيء قاس
أن يسكن رأسكَ
هذا الكم الهائل
من الخوف
ورؤوس أطفال مقطوعة
بعيون مرتعدة
*
إنه لشيء قاس
أننا جميعاً
دون استثناء
ما نحن إلا
مشاريع مؤجلة
للموت.
ولأننا كلنا كبشر، على اختلاف معاناتنا وتطلعاتنا وأساليب حياتنا، مجرد مشاريع مؤجلة للموت، فأننا مدعوون في كل لحظة من لحظات انتظارنا هذا، إلى اكتشاف وتكريس ما يجعل حياتنا أجمل وأعمق وذات معنى، وهل كالفن من يتطوع لمساعدتنا على إنجاز هذه المهمة؟