ليندا بلال – الناس نيوز :
“الشر والخوف كالتوائم السيامية المتلاصقة. لا يمكنك ملاقاة أحدهما دون لقاء الآخر. قد يكونان اسمين مختلفين لتجربة واحدة – بحيث يشير أحدهما إلى ما تراه أو تسمعه، والآخر إلى ما تشعر به. يشير أحدهما إلى “الخارج هناك”، إلى العالم الخارجي، والآخر إلى “الداخل هنا”، إلى نفسك. فما نخشاه هو الشر، وما هو شر نخشاه. لكن… ما هو الشر؟”.
يحاول “زيجمونت باومان” جاهداً في كتابه “الخوف السائل” الوصول إلى فهم عميق لخوفنا نحن البشر. يفكك المنظومة الغربية دولة ومجتمعاً بحثا عن إجابات. ماذا لو حاولنا فهم خوفنا؟ مما نخاف نحن؟ و”نحن” هنا تعود على السوريين والشرق أوسطيين.
مع انطلاق الثورة السورية ربيع عام ٢٠١١ نمت كالفطر عبارة “سقط الخوف وكُسرت قيود الطغيان”. لكن المتحمسين للثورة، وأنا منهم، لم نلحظ قيودنا الجديدة. لم ننتبه للمخاوف الوليدة. طوينا سؤالنا الملحّ عن المستقبل في ثلاجة الانتظار. تعاملنا مع فرض أسماء أيام الجمعة وفق هوى فلان أو فلان بأنها ضريبة الديمقراطية. كففنا البصر عن الهتافات المغايرة لما يريده كثير منا. أجّلنا المواجهة مع تلك المخاوف فصارت رعباً يلاحقنا.
أنتجت الثورة، كغيرها من التحركات الاجتماعية، عشرات التجارب البهيّة تقابلها مئات التجارب المرة. ليس فقط على مستوى خلط المفاهيم واعتبار المعارضة ممثلة عن الشارع ومعظمهم لا يعرفون ثمن ربطة الخبز في المدن السورية.
ليس الفساد الذي ضرب معظم المؤسسات البديلة أو الموازية في تركيا ولبنان والأردن. لن أخوض بصعود النجوم في هذا الحقل وذاك. إنما هو ضيمٌ آخر.
“الأبوية” هي الشر الذي عمّق تلك المخاوف لتصير جدار رعبنا الجديد. الوصاية على الناس واعتبارهم “عامة” لا يعرفون مصالحهم. صار كل من يعرف “فكّ الخط” منظراً وأستاذاً في كل المجالات. ونحن مشغولون بالحوارات التي انتجها تأخر النصر. نحلل الفائدة النفسية للثورة وأثرها على فهم المجتمع السوري لقدراته في التغيير.
لحظة انتبهنا لما يجري من حولنا وجدنا مثقفين كباراً يوجّهون الجاليات السورية في بلاد اللجوء بأنّ عليهم أن “يحبّوا بعضهم بعضا”. عليهم أن يجتمعوا و”يحكوا” نحن بحاجة للكلام. “لا تخافوا النظام سقط وبات في مزبلة التاريخ” كانت هذه جملتهم الاعتراضية على كل سؤال يطالب برؤية للمستقبل القريب أو البعيد. بالطبع طيب مثقفونا يغيّبُ عنهم الإحساس بممارستهم وصاية النظام على الناس. لا يدركون بأنهم يتصرفون كمنظّري الأحزاب الشمولية، يوجّهون أنصارهم لواجباتهم اليومية. ربما يدركون ويحبون ما هم عليه، لا يهم.
تساقط الأراضي السورية تحت نير النظام من جديد أدخلنا في يأس مرير. مفاوضات ماراثونية لم توفّر معلومات حقيقية في ملف المعتقلين. ساعدت بعض المنظمات الأوروبية والعالمية ، إلى إحياء ساحة المواجهة القضائية مع بعض ضباط ورموز النظام. ولدت محاكمات في ألمانيا وهولندا تشمّر عن ساعديها للمشاركة، والسويد تعمل في هذا الحقل وبرلمان بلجيكا وافق على لعب بلاده لهذا الدور. تصدّر المشهد السوري عشرات الحقوقيين يجتهدون ويقدمون جهودهم المريرة في هذا المضمار، تحت عنوان بث الطمأنينة في قلوبنا. يصيبون ويخطئون بين تارتين .
من لا يعمل لا يخطئ، ومن يخطئ يعتذر على أقل تقدير. هذا القانون الطبيعي للحياة الكريمة التي طالب بها السوريون مع أول هتاف “الموت ولا المذلة”. إلا أن البعض يروننا أقل شأنا من الاعتذار عن أخطائهم، ويعطوننا حق “الصراخ” خلف قافلتهم المقدامة.
الوصاية أولا وثانية، الوصاية دخلت مجالات النبوءة. بات الكثير ممن يعتبرون أنفسهم رموزا لهذه البلاد يتصرفون كالأنبياء. يطلقون الحكم والتوجيهات وعلينا السمع والطاعة. هل قتلنا خوفنا من طاغية متسلط في دمشق لنعاقب بعشرات الطغاة!.
وصاية من يختار الشعار ووصاية الناشط الإعلامي ومن ثم وصاية قائد الفصيل وزعيم التنظيم والمموّل والحقوقيين والمثقفين. كلكم يا سادة تعرفون صالح السوريين أكثر منهم. نعيب على المتطرفين سيوفهم التي تقطع رؤوس المخالفين ونمارس القتل كل يوم دون دماء.
صديقٌ نجا من سجون الأسد ليهرب من المجتمع إلى قوقعة عزلته المديدة مكتفياً بسرد بعض الصور عن تجاربه. أخبرني ذات يوم أن “لحظة إخلاء السبيل تُمثّل زمناً ممتداً طويلاً. تعود معه الذاكرة إلى لحظة السجن الأولى، رفاقي الذين قضوا أو الباقين في زنازينهم. الألم والعذابات التي نلتها طيلة الوقت. لمحات وصور تتراكم في عيوننا تغرقنا بالماضي. تختلط المشاعر، فرح وفزع، دمعة حبيسة وابتسامة خجولة، تبلّد يعتري الإحساس، رجفة وترقب. جاءت اللحظة المنتظرة منذ شهور أو سنوات، فماذا بعد؟ مع أول أيام الحرية أدركت أنني بدّلت قيدي لا أكثر. نجوت من سلطة العنف والخوف إلى سلطة الحياة ومتطلباتها”.
يُتركُ الناجي في الغالب لمواجهة قدره وحيداً، فلا منظمات تعينه وإن كانت فتمارس عليه الوصاية. سجان واحد يمارس عليه الطغيان يقابله عشرات “المحبين” و”الأهل” و”الأصدقاء” يمارسون عليه طغياناً حريرياً ناعماً. هم يدركون مصلحته وما عليه القيام به، وإن كانت معتقلة فعليها نسيان التجربة كلياً وأول سؤال يطرح عليها “هل اغتصبتِ؟”.
كلنا مع الوقت بتنا قادة ومنظرين سياسيين ومفكرين، نخرج في البث المباشر على المنصات الافتراضية لنوجّه المقاتلين في معركتهم القادمة. نخرج لنعلمهم كيف يفكرون وكيف يحيون. نخرج على الناس من بيوتنا لنعلمهم كيف يزرعون الأرض المحيطة بخيمتهم ليحققوا اكتفاءهم الذاتي. نحن أنبياء بالفطرة… ومن يقف بطريقنا وينتقد أعمالنا نؤنبه ونوبخه بكلمات تحيله غبياً وهمجياً. إن تطاول بتوضيح وجهة نظره نرسل له تهديدات المحاكم والقضاء. نحن في بلاد القانون، نحن أبناء القارة الأوروبية ، والمَهَاجر اليوم.
الكارثة السورية كالإعصار تكتسح الفقراء والأقل حظا في الداخل والمخيمات. مجاعة تهدد محشر الهاربين من البراميل في إدلب. لاجئون اكتشفوا زيف الحلم الأوروبي وباتوا مسننا دقيقاً في آلة إنتاج المال. يحاول البعض خلع جلده ليندمج فتواجهه مطحنة الحضارة البيضاء بالنبذ على حسب شكله. يشتمُ اللاجئ أصوله وأهله ودينه وعاداته وتقاليده. تصر المطحنة على رفضه ضمن البيئة الداخلية للحياة الأوروبية. يأتيه الجواب مبطناً: “أنت جزء من الفضاء العام، وفقط”.
البعض ينطوي على ذاته ويدخل في المجتمعات الصغيرة القديمة، “غيتو”، من مغاربة وأتراك هربا من المواجهة. كلنا يظن أنه ابن ثقافة معيبَة، لكن كلٌ على طريقته. ذاك ينبذها والآخر يحملها ويلوذ بالفرار. الهروب لا يكون اجتماعياً أحيانا، بعض اللاجئين باتوا نزلاء مشاف نفسية ومراكز علاج إدمان المخدرات والكحول. ليس فسوقاً أو فجوراً أو انحلالاً. اليأس شر كريه يقتل الأمل أولا ثم يحيل جلده غشاوة تغطي العيون عن الواقع، تغرق اللاجئ بدوامة العدم.
نُقتلُ ببطء ومعظم النصال يحملها إخوتنا. نقتل بصمت ومعظم السموم يدسها أحباؤنا في أطباق عطفهم وحنانهم. سقوط الطاغية أنجب عشرات الطغاة بصولجان مدبج بحرير المحبة والخوف على مصالحنا. مما أخبرني صديقي الناجي من سجون الأسد: “ذات يوم في صيدنايا طرح علينا أحد الأصدقاء سؤالاً نفسياً. “أنت مسؤول عن أمن الحدود في بلادك وألقيت القبض على مهرّبين. الأول يهرّب الكتب والثاني يهرّب المحروقات. عليك معاقبة واحد منهم فقط، فمن تختار؟” أجابه البعثي الوصي على عقول الناس والحي في قلبي “أعاقب مهرّب الكتب”.
الأكثر شعبية

هجرة المسيحيين السوريين بين التفكك الوجودي وتحديات البقاء…

الحكومة الأسترالية تبدأ خطوات “تعليق” العقوبات على سوريا…


