المحامي ميشال شماس – الناس نيوز ::
مناسبة الحديث عن محاكم التفتيش، هي وفاة “القرقوشي” فايز النوري رئيس محكمة “التفتيش” الشهيرة باسم “محكمة أمن الدولة العليا”، قبل أن يُحال للتقاعد بعد إلغاء المحكمة في أبريل/نيسان 2011 لتحل محلها “محكمة الإرهاب”، في محاولة لامتصاص غضب السوريات والسوريين الذي انفجر في مارس/آذار 2011.
فمنذ أيام توفي فايز النوري الذي تولى رئاسة تلك المحكمة لأكثر من ثلاثة عقود، بعد أن أدى مهمته بقذارة قلّ نظيرها، تلك المهمة التي وكله بها حافظ الأسد لمعاقبة كل مَن يشُك في ولائه لسيده، وخلال مسيرته الإجرامية الطويلة في رئاسة المحكمة المذكورة أصدر النوري عشرات الآلاف من الأحكام، من بينها آلاف الأحكام بالإعدام، حيث كان يرسلها إلى سيده حافظ الأسد، ومن بعده بشار الأسد، ليقول كلمته الأخيرة بشأن تنفيذ أحكام الإعدام أو يخفضها.

ولم تكن “محكمة أمن الدولة العليا” المحكمة الوحيدة في سوريا التي اتكأ عليها عسكريو البعث في الفتك بخصومهم ومعارضيهم، منذ أن استولوا على السلطة في سوريا في مارس/آذار 1963، فقد تفتقت عقليتهم بقيادتهم القطرية المؤقتة لحزب البعث على إنشاء المحاكم الميدانية العسكرية أيضاً.
فبتاريخ 28/3/1986 أصدرت “القيادة القطرية المؤقتة لحزب البعث العربي الاشتراكي” المرسوم 47، الذي نص على إنشاء “محكمة أمن الدولة العليا”، ليس لحفظ أمن الدولة العليا، بل لمنع ظهور أية معارضة لنظام البعث آنداك، وبعد حوالي خمسة أشهر أصدرت القيادة القطرية مرسوماً تشريعياً جديداً، حمل الرقم 109 تاريخ 17/8/1968 قضى باستحداث محاكم “قرقوشية” جديدة، أطلق عليها اسم محاكم الميدان العسكرية.

وبالرجوع إلى النصوص القانونية لتلك المحاكم “القرقوشية” سنكتشف دون عناء أن الغاية من إحداثها كان ولايزال معاقبة كل من تسوّل له نفسه معارضة نظام البعث ومن بعده نظام الأسد. ومنحت القيادة القطرية لحزب البعث تلك المحاكم سلطة البت بالقضايا المُحالة إليها من الحاكم العرفي ومن بعده الأجهزة الأمنية، دون التقيد بالأصول والقوانين النافذة، ولها أن تعقد جلساتها في أي مكان تراه مناسباً لها، وإذا كانت “محكمة أمن الدولة” قد سمحت بحضور محامي مع المتهم، فإن المحاكم الميدانية العسكرية التي ماتزال تمارس عملها لم تسمح إطلاقاً بحضور محامين مع المتهمين، لا بل وتمنع أي شخص من غير موظفيها من مراجعتها أو الدخول إليها، وفوق ذلك تجري جلساتها بشكل سرّي.
وتلتقي محكمة أمن الدولة العليا مع محاكم الميدان العسكرية في أنها تعتمد وتتبنى التحقيقات الأمنية الواردة في الضبط الأمني، وتصدر أحكامها استناداً للاعترافات التي يدلي بها المتهمون أثناء التحقيق لدى أجهزة الأمن، حتى وإن أنكرها المتهمون وقالوا إنها أخذت منهم تحت التعذيب، والأحكام الصادرة عن المحكمتين تصدر عنهما بصورة مبرمة ولا يجوز الطعن فيها أبداً، كما تلتقي تلك المحاكم في أن أحكام الإعدام التي تصدرها لا تنفذْ إلا بعد تصديقها من قبل رئيس الجمهورية، وهو المخول وحده بموجب قانون إنشاء تلك المحاكم بالتصديق على الأحكام الصادرة عنها أو إلغائها أو تخفيض مقدار العقوبة فيها.

مع ملاحظ أن قانون محكمة أمن الدولة كان يسمح لرئيس الجمهورية بتفويض صلاحيته في التوقيع على أحكام المحكمة إلى من يفوضه. بينما في محكمة الميدان، لا يوجد مثل هذا النص، أي أن كافة أحكام الإعدام التي صدرت ونفذت منذ تاريخ إنشاء هاتين المحكمتين في عام 1968 وحتى الآن، لم تكن لتنفذ أبداً لولا توقيع رئيس الجمهورية بصفته الوظيفية على تلك الأحكام. وللعلم فقد أصدرت تلك المحاكم عشرات الآلاف من أحكام الإعدام بحق سوريين وعرب من لبنانيين وفلسطينيين وعراقيين وأردنيين لمجرد أنهم كانوا يعبرون عن رأي مختلف في طريقة إدارة النظام السوري عن الطريقة التي كان ومازال يحكم بها نظام الأسدين.
ومنذ إحداث تلك المحاكم عانى السوريون ومازالوا يعانون من أهوال تلك المحاكمات “القرقوشية” التي تشبه في عملها ونتائجها محاكم التفتيش في القرون الوسطى، والتي كانت تلاحق وتعاقب مخالفي الكنسية. وهي كذلك اليوم تستهدف معارضي النظام الحاكم وكل من يرفع صوته معترضاً على سياسية الأسدين، وقد شكلت تلك المحاكم وماتزال الغطاء القانوني بنظر السلطة الحاكمة لأحكام السجن والإعدام التي كانت تقررها سلفاً تلك السلطة، وتنفذها من خلال محكمة أمن الدولة العليا قبل أن تلغيها في أعقاب ثورة الشعب السوري، وهي ما تزال تقررها وتمارسها من خلال محاكم الميدان العسكرية التي نشطت إلى جانب محكمة الإرهاب مع انطلاق الاحتجاجات الشعبية ضد نظام الأسد الابن في مارس/آذار 2011، في محاكمة مئات الآلاف من السوريين خلال العشر سنوات السابقة.

وأخيراً، إن الهدف من هذا العرض السريع لمحاكم التفتيش في سوريا، هو لأجل تسليط الضوء على مدى خطورة استمرار هذا النوع من المحاكم على حياة السوريين، باعتبارها لا تشبه المحاكم في شيء إلا من ناحية الاسم فقط، وأيضاً لتشجيع السوريين على الانخراط في حملة لا تنتهي إلا بإلغاء هذه المحكمة نهائياً، وتعديل قوانين إنشاء المحاكم الأخرى كمحكمة الارهاب والمحاكم العسكرية، وكذلك تعديل القوانين التي تنتهك حرية الإنسان أو تقيدها.