ريما بالي – الناس نيوز ::
كثرت في الآونة الأخيرة في سوريا ظاهرة رمي أطفال رضع مجهولي الأهل في الزوايا المعتمة من الشوارع والمزابل.
أول فكرة تطرأ في بال أي إنسان عند قراءة خبر كهذا هي: “كيف فعلت أمه به هكذا”؟ لا أحد يفكر للوهلة الأولى بأبيه، بل فقط، أمه، باعتبار أن الأب المعني هو إنسان، وخاضع لأهواء طبيعته البشرية، أما الأم الجانية، فهي “الملاك” الذي تنكر لطبيعته الملائكية، فألقت بطفلها الذي من المفترض أنه أهم سبب لوجودها.
هذه المرأة الشاذة المسخ تستحق حسب مفاهيمنا السائدة، الرجم بكل حجارة الأرض والسماء، كما تستحق تجريدها من لقب “أم”، بما أن هذا اللقب مرتبط حصراً بالملائكة من الكائنات.
ولكن… هل أن إنزال الأم منزلة الملائكة والقديسين هو تكريم لها؟ أم عبء ثقيل أضيف إلى كاهلها الذي ينوء أصلاً بأعباء ثقيلة؟
هل يجب تجريد المرأة من لقب أم، إن تصرفت حسب طبيعتها البشرية وحادت عن درب القداسة؟ أم أن الأم تبقى أمّاً رغم كونها إنسان أولاً وأخيراً؟
من الواضح أن كثيرين غيري فكروا في هذا السؤال، ومن دون أن أتطرق للنظريات العلمية لذوي الاختصاص، أحب تسليط الضوء على تطور الوعي الشعبي بما يخص هذا الموضوع، إذ بت أرى خطوات خجولة، ومستترة خلف قناع كوميدي، تمضي في طريق أنسنة الأم، حيث انتشرت في السنوات القليلة الأخيرة، عدة منشورات تغمز بخفة ظل لا تخلو من خبث، مشيرة إلى بعض الممارسات القاسية والمؤذية والشديدة الصرامة التي تقوم بها معظم الأمهات بشكل عرضي وعفوي: طرق عقاب عنيفة، كذبات بيضاء غبية، قواعد عسكرية في اللباس وتصفيف الشعر، تفضيل أخ على آخر، تنمر، استخفاف بالمشاعر، قمع… الخ. كما راج منذ أكثر من عام فيديو ظريف عن أقوال الأم المأثورة في لحظات غضبها (عندما تتعب من وظيفتها الملائكية وتقرر التمرد)، عُنون الفيديو بـ “أقوال نبع الحنان”، ومن بعده، درج استعمال لقب “نبع الحنان”، عند الإشارة الكاريكاتورية إلى الوجه الآخر (غير الملائكي) للأم في قالب فكاهي، ومن باب النكتة والمشاكسة اللطيفة.
من بعض الجمل التي جاءت في الفيديو المذكور على لسان نبع الحنان، “أنتو بلاي بيمشي دودكن، لأتركلكن البيت وأهج، فاتحتلكن البيت أوتيل، لمين طابخة أنا، ما حدا بمد إيدو على شغلة بهالبيت، ما تاكلوا هدول للضيوف، شوعم تشبهي عمتك…الخ”.
تعودنا اليوم عند مرورنا بهاشتاغ #نبع_الحنان، أن نقرأ تحته نكتاً ونصوصاً طريفة تداعب ذكريات طفولتنا، فنقهقه عالياً ونحن نتذكر آلاماً صبيانية اعتبرناها مضحكة وساذجة وتافهة، ومرت في حيواتنا كسحابة صيف من دون مطر ولا ثمر، فهل كانت فعلاً كذلك؟
إجابة عن هذا السؤال علينا أن نتناول الموضوع بشكل أكثر جدية، وأن نتفق بداية أن الأمومة هي غريزة طبيعية ترافق وظيفة بيولوجية بحتة، وأن الأمهات هن مخلوقات ذات طبيعة بشرية أولاً وأخيراً، فإن كانت (كل) الأمهات قديسات وحكيمات وفاضلات، من أين جاء (بعض) الأبناء بكل هذا العنف والانحلال والشر والعدوانية؟
أستعين هنا ببحث لصديق لي كان قد أجراه منذ فترة، حول تأثير العلاقة مع الأم في حياة الأبناء وعلاقاتهم، اعتمد الباحث على كتابَي “المرأة والحب” لـ آنا دانيال و”أمي مرآتي” لـ نانسي فرايدي.
ينطلق البحث من أن المرأة قبل أن تصبح أماً، هي كائن فاعل ومنفعل، يتأثر بالظروف التي ينشأ فيها لتنعكس تلقائياً في أسلوب تعامله مع أبنائه بعد إنجابه لهم.
أي إن المرأة لا تتحول ملاكاً في لحظة إنجابها وتحولها أماً، بل تبقى هي ذاتها، الإنسانة ذاتها بما تحمله من مشاعر سلبية وإيجابية وتراكمات وترسبات في وعيها ولا وعيها.
تلك التراكمات هي من تحدد أسلوبها في تعاملها مع وليدها، الأسلوب الذي يؤثر بدوره في طريقة هذا الطفل، عندما يتحول إنساناً بالغاً، في تعاطيه مع مجتمعه وعلاقاته.
اقتبس من البحث في ما يلي، والاقتباس سيشرح ما أريد قوله: “إن الأفراد الذين حرموا من حب أمهاتهم في الطفولة، أو عوملوا بشكل سيئ، يسيطر عليهم إحساس متضخم بالدونية ويشعروا بنقص شديد بالاهتمام والرعاية، ويعود ويتكرر هذا الشعور مع الزوج أو الزوجة إذا كانوا متزوجين”.
ومن مكان آخر، تقول د.كوهلان: “كما أنه ما من طفلة لبّت أبداً تصوّر الأم عن الابنة، كذلك ما من أم ارتقت إلى مستوى تصوّر الابنة لما يجب أن تكون عليه الأم”.
ولكننا بدل أن نعترف بحتمية وجود هذه الصدمة المزدوجة، نواصل التخيّل في أننا على علاقة مثالية مع أمنا، أو أننا سنصل إليها في يوم ما.
“أنا لا ألوم أمي على أسلوبها في تربيتي، لقد قدمت أفضل ما لديها”، هذه إحدى الجمل المشفّرة التي تستعملها النساء لإنكار الطفولة الغاضبة والساخطة التي مازالت حيّة في داخلهن. ومع ذلك فإن ما فعلته الأم أو ما لم تفعله قد أضرَّ بنا.
لا يكمن الحل في أن نتصل مع أمنا ونصبّ عليها جام غضبنا لما حدث منذ عشرين عاماً أو أكثر. إن غضبنا الكامن غير موجّه إلى أمنا الحالية، ومن المحتمل أنها لن تفهم عمَّ نتحدث”.
ويستطرد الباحث نقلاً عن الكاتبة: “أود القول إن العلاقة السيئة مع الأم قد تكون الطريق الأقرب لتدمير علاقتنا الزوجية، وعلاقاتنا بكل الرجال الآخرين”.
ومع ذلك علينا أن نواجه غضب الطفولة ونعبّر عنه، ولو لأنفسنا فقط، دون خوف أو ذنب، لأن ذلك لا يقتل أبداً الحب بين الأم وابنتها. لا تخافي، ما مِنْ شيء تعملينه يمكن أن يدمّر أمك.
أستطيع أن أكون حرّة ومختلفة عنها في عملي وفي حياتي وفي زواجي كما أختار، ولكن أستطيع أن أحافظ على علاقتي معها أيضاً.
سوف تكون علاقة أكثر أصالة من أسطورة الأم كلية الحب (الملاك والقديسة)، التي انتظرتها في لاوعيي حتى الآن.
كنت دائماً أستاء من إحساسي بأن عليَّ كي أحافظ على حب ورضا أمي، أن أكون كاملة (ملاك وقديسة مثلها)، أن أريها ما ترغب أن تراه فيَّ، لا أن أريها نفسي كما هي، نفسي التي كنت بعيدة عنها. ما أعرفه الآن أن هذا الميثاق قتل لديَّ أية فرصة في أن أكون أنا أنا.
إننا نخلق أشباحنا بأيدينا، وعلينا أن نقتل هذه الأشباح بأيدينا أيضاً“.
لم أتعمد في مقالي هذا أن أنزع عن الأمهات أجنحة الملائكة لأضعهن في قفص الاتهام، أبداً وبالعكس، أحببت فقط أن أحررهن من صوامع القديسات الضيقة والافتراضية والباهظة التكلفة، لأعيدهن إلى الحياة الحقيقية كبشر، لهن ما لهن وعليهن ما عليهن.
وكعادتي في كل مقال (صدفة غير متعمدة)، وبما أننا احتفلنا بعيد الأم منذ أيام، سأختم بتهنئة (معايدة) لكل الأمهات الحقيقيات الآدميات النابضات الجميلات، قديسات كن أو غير قديسات.
وتحية أخرى لأمي، التي هي أقرب من أن تكون قديسة وأدفأ من أن تكون ملاك، حسبها وحسبي أنها أمي.. أنا هي وهي أنا…أنا ماضيها وهي مستقبلي.. أمي مرآتي.