هيثم الموراني – الناس نيوز ::
عيد العمال موعد مع الذكريات، يأخذني بعيداً إلى الوراء لأضع وردة على صدر كل من ساهم في نهضة وبناء الأمة.
لكلٍ منّا قصتهُ معَ الحياةِ، ولكنها جميعاً تؤولُ إلى غايةٍ واحدةٍ، وهيَ تكريس حقيقة وجودنا، وترك بصمة تخبر عن هذه الحقيقة بالسعي لبلوغ النجاحِ وتحقيقِ الأهدافِ التي نرسمها لدورة حياتنا، لم نولد حكماء ولكننا نمتلك كل الأدوات التي تؤهلنا لنكون كذلك، وسطياً نستهلكُ أكثر من ثلث أعمارنا في الدراسةِ والتحصيلِ العلميِ لنجمعَ مخزوناً أولياً منْ العلمِ والمعرفةِ يمنحنا الحد الأدنى من الثقة بالنفس لدخولِ معتركِ الحياةِ، وبعدها يبدأُ التحدي الأكبرُ لإثباتِ وجودنا واختبار مخزوننا العلميِ والمعرفيِ، ومدى أهليتنا لمواجهةِ العوائقِ التي يمتلئُ بها طريقُ المستقبلِ، وفاعلية العتاد الذي تزوّدنا به من أجل التغلبِ على هذه العقبات والحواجز وتجاوزها بغية الوصولِ إلى أهدافنا التي رسمناها في مخيلتنا على مدى سنواتِ طوالٍ.
الطريقُ طويلٌ وشاقٌ وعبورهُ يستنزفُ العمر والطاقة معاً ويقضي على كلِ جهدٍ يمتلكه الإنسان، ومعَ ذلكَ نادراً ما يتراجعُ أوْ يقفَ بيأسِ لينظرَ خلفه، ينسى الماضي بكل ما فيه، ويتطلعُ دائما إلى الأمامِ، يستعجلُ الزمن ليصلَ إلى ما يطمحُ إليهِ منْ نجاحِ ومكانةِ علميةٍ واجتماعيةٍ مرموقةٍ، وغالباً ما ينسى الوقت ومحيطه الأسريُ والعائليُ وينشغلُ عنهم في الانخراطِ بمارثونِ الحياة لتحقيق أحلامه وضمان حياة حرة كريمة لأسرته، يشتد االتنافس وتزداد حماسة المتسابقين وتعم الفوضى وضجيج التصفيق، ويبقى الإنسان في خضمهِ تائهاً منفصلاً عن محيطه يسرقه الزمن ويمرُ العمرُ في غفلةٍ منه، ليجدَ نفسه في نهايتهِ وقدْ غنم حصاداً وفيراً منْ العلمِ والمعرفةِ والخبرةِ التي دفع ثمنها غالياً من عمره وحياته.
لكنَ المؤسفَ جداً تلك الخيبة الكبيرة والصدمة الشديدة التي يتلقاها أهل الخبرة والمخزون العلمي والمعرفي في دول مسخها الجهل حتى النخاع وتسيّدها الفساد، فليسَ لكلِ ما جناه الإنسان منْ علمٍ وخبرةِ ومعرفةِ أيةِ قيمةٍ لمنْ ينظرُ إليه كمنتجات فقدت صلاحيتها وأدوات تجاوزها الزمن، ولا تستحق الثمن الذي سيدفعهُ لقاء الاحتفاظ بها، وقدْ تكونُ الرصاصةُ القاتلةُ عبارة “آسف فقدْ تجاوزتْ الستينَ منْ العمر”، إنها مهزلةُ الفهمِ الخاطئِ لسياسةِ تطورِ المجتمعاتِ وقوانينِ الحياةِ، أنها أداة عبثية لتدمير الخبرات العلمية والمعرفية ومنع تراكمها، وتشريع فاشل يقضي على الإبداع والابتكار.
الجهل لا يعتدي على أحد، ولكن للأسف الشديد هناك من يتعمّد الجهل لتدمير الكنوز العلمية والمعرفية للأمة، أن أصحاب الشهاداتِ العلميةِ والخبراتِ العاليةِ منْ مهندسينَ وأطباءَ، حقوقيينَ وإعلاميين وغيرهمْ الكثير منْ رواد العلم والفكر المعرفي، ليسوا مصارعينَ في حلبةٍ يحتاجونَ إلى عضلاتٍ مفتولةٍ وأجسام رياضية ولياقة بدنية لكي يستفيدَ منهمْ المجتمع والأمة، لقد أثبت الطب الحديث وعلم الأعصاب بأن نصفي الدماغ الأيمن والأيسر لدى الإنسان بعد بلوغه سن الـ (60 ) يكونان أكثر دقة وتناغماً، وهذا يمنحه مرونة كبيرة لتمرير الإشارات بسلاسة بين الخلايا العصبية ويوسّع مداركه الإبداعية ويحفّز قدراته العقلية لاتخاذ القرارات الصحيحة وحل مشاكل غاية في التعقيد، لذا أقول لأصحاب الفكرِ الضيق والنظرةِ المادية أن العلم لا يشيخُ معَ العمرِ، والمعرفةُ لا تفقدُ رونقها عندَ بلوغِ الستينَ، والخبرةُ تزدادُ تألقاً وبريقاً كلما تقدمَ بها الزمن، ولكنَ الفرقَ شاسعٌ بينَ منْ أدركتهُ شيخوخةُ العقلِ مبكراً وبينَ منْ اجتهدَ وضحىْ ومنح عقله شباباً دائماً لا يشيخُ معَ الزمنِ.
الحقيقة قاسية جداً، بل مخجلة وقاتلة، لكل من بذل وضحى ولم يبخل بأي جهد يمتلكه في بناء صرحٍ من العلم والخبرة والمعرفة ليقدمها عربون وفاء لمجتمعه وأمته مساهماً في نهضتها، فيأتي مشرّع بلا شرعية أو فاسد جاهل ليهدم هذا الصرح ويتلفه دون أدنى حس بالمسؤولية، ضارب بعرض الحائط كل القيم الإنسانية والأخلاقية التي كانت ومازالت ركيزة النهضة التي وصلت إليها البشرية عبر تاريخها الطويل، إنه جحود بجهد الإنسان وتضحياته وقتل متعمّد للطموح والإبداع.
المفجّع في هذا الأمر أن “أمةٌ ترمي خبراتها الماسيةَ في سلالِ المهملاتِ دون أن يرف لها جفن هيَ أمةٌ ميتةٌ بلا شك، وجودها عارٌ على البشريةِ جمعاء”.
التقاعد القسري بعمر الستين، هو قتل متعمّد مع سابق التصميم والإصرار لشخص أفنى حياته في العلم والتحصيل، وهرطقة تشريعية بغطاء قانوني، وتجاوز وقح، وتعد جائر على المخزون العلمي والمعرفي والثقافي للأمة، وللأسف الشديد أن بعض من يشرّعون إتلاف هذه الكنوز المعرفية والخبرات العلمية وتحييدها، أشخاص لم يبلغوا مرحلة النضوج الفكري والأخلاقي بعد، وليس لديهم المؤهلات الكافية لاتخاذ القرار السليم وتقدير حجم الجريمة التي ارتكبوها.
يجب على كل صاحب فكر ومثقف أن يسعى جاهداً لترسيخ مفهوم “الملكية العامة” لهذه الكنوز العلمية والمعرفية وحماية أصحابها من الإقصاء القسري الذي أسست له نظريات فلسفية ليس لها مرجعية واقعية أو سند علمي متفق عليه، وتعديلها لرفع سن التقاعد لجميع المهن التي لا تحتاج إلى جهد بدني، ولدينا ملايين الأدلة والشواهد التي تؤكد أن ما وصلت إليه البشرية من نهضة علمية وفكرية وثقافة مجتمعية، أبدعته عقول تجاوزت الستين من العمر، وإن ما جمعه هؤلاء الأشخاص من مخزون فكري يجب أن يُستكمل لكي تستفاد منه الأجيال القادمة لا “أن يرمى في سلة المهملات!”.