[jnews_post_author ]
احتفل الفرنسيون يوم 7 حزيران الماضي بعيد الأمهات. وعلى الرغم من أهمية هذه المناسبة عاطفياً وتجارياً في فرنسا، إلا أن أصواتاً متزايدة صارت تُسمع مندّدة بالصورة التي يرسلها هذا العيد عن تنميط دور المرأة وحصره بالأمومة وبالإنجاب. وصار من الممكن سماع أصوات، نسائية في أغلبها، تنادي بتغيير محتواه أو حتى التوقف عن الاحتفال مقابل تعظيم الاحتفال بيوم المرأة العالمي المصادف في الثامن آذار. لا يحلو للتجار هذا الحديث، فقد دفعت العادات الاستهلاكية المتفجرة إلى ترسيخ العدد الأكبر من المناسبات وإبعادها شيئاً فشيئاً عن أصل إطلاقها، أو حتى أن الأمور قد تتطور لاختراع مناسبات من أجل تحفيز الاستهلاك، كما عيد الهالوين المستورد حديثاً إلى بلاد الغال.
عيد الأمهات، بصيغة الجمع، وبعيداً عن الاستهلاك وعاداته، يُذكرني دائماً بما اعتبره نقيضاً لحمولته، وهي مجموعة “أمهات ساحة أيار” الأرجنتينية التي تأسست سنة 1977 في بوينس آيرس عاصمة البلاد التي كانت خاضعة للحكم العسكري الذي أرهب الأرجنتينيين منذ سنة 1976 حتى سنة 1983. وقد أتت التسمية من مكان تجمعهن في ساحة أيار الواقعة أمام قصر الحكومة الأرجنتينية. فخلال “الحرب القذرة” التي شنّها الانقلابيون على معارضيهم من اليسار، تم تسجيل فقدان 30 ألفا من المعارضين نساءً ورجالاً. وقد بادرت بعض الأمهات للتجمع احتجاجاً أمام قصر الحكومة والمطالبة بالكشف عن مصيرهم. ومنذ 30 نيسان 1977، تجتمعن أسبوعياً للدوران حول الساحة. وللدوران هذا قصة، فقد فرضه العسكريون على الأمهات بحجة أن القانون يمنع تجمع أكثر من 10 اشخاص بشكل ساكن. وصار الدوران علامة الأمهات المسجلة، وصرن يرفضن التوقف عن القيام به لدوره الفعّال في جذب انتباه الناس المارة حولهن.
في بداية الحراك، قتل الجيش بعض الأمهات ممن كن يقدنه، ظناً منه بأن هذا الإجراء الإجرامي سيدفع الأخريات للعدول عن التجمع والدوران واستمرار المطالبة بمعرفة مصائر فلذات أكبادهن. من ثم، وتحسباً من مواجهتهن في الساحة بعنف حيث إنهن مسالمات ولا تقمن إلا بالدوران، ارتأى النظام العسكري الانتقال إلى حرب من نوع آخر عبر مواجهتهن نفسياً. وبدأت وسائل الإعلام المحسوبة على العسكر بالاستهزاء بالأمهات واعتبار أن حركتهن مجنونة مما أوصل الإعلام الرسمي إلى أن يطلق عليهن اسم “مجنونات ساحة أيار”. محاولة التسخيف هذه أيضا أدت عكس مبتغاها، وصارت هذه التسمية عالمية لتدل على متانة إرادة الأمهات وصلابة عزيمتهن سعياً وراء معرفة الحقيقة. وبين هذه المحاولة وتلك، سعى أيضا النظام لإطلاق لقب آخر عليهن وهو “أمهات الإرهابيين”. فشل هذا المسعى أيضا وساهم في توسيع شعبيتهن وتعاطف محلي وعالمي مع قضيتهن. وقد استطعن جذب الاهتمام العالمي منذ أن اختار التلفزيون الهولندي أن يبث مسيرتهن على الهواء مباشرة عوضا عن مباراة لمنتخبه الوطني أثناء انعقاد مسابقات كأس العالم سنة 1987 في الأرجنتين. وقد رفضن أيضا الحرب التي خاضتها وخسرتها الأرجنتين ضد احتلال بريطانيا لجزر المالوين، قائلات بأن “الجزر أرجنتينية وأطفالنا أرجنتينيون، وهذه حرب يفتعلها النظام لجذب الأنظار وتأجيج المشاعر القومية وقتل من تبقى من أولادنا”.
بعد انتهاء الديكتاتورية العسكرية ووصول الحكم الديمقراطي الأول، أراد السياسيون الأرجنتينيون التوصل إلى حل وسط مع عسكر الماضي، فأصدروا عفواً عن جرائمهم، وبالتالي، طويت صفحة الإخفاء القسري الذي خرجت الأمهات لأجله. فاستمرت حركتهن دون أي نقصان في التعبير، واعتبرن أن الحكم الديمقراطي الجديد قد حابى الديكتاتوريين وأغلق ملف العدالة الانتقالية. وقد تعزّز هذا التسامح مع العسكر الانقلابيين مع قدوم الرئيس من أصل سوري كارلوس منعم سنة 1989 إلى السلطة، والذي كان همه الأول تحسين درجات النمو الاقتصادي، وبالتالي استقطاب رؤوس أموال جديدة كانت قريبة من العسكر وربما ستسعى للخروج من البلاد إن تمت المحاسبة وفق مبادئ العدالة الانتقالية الضرورية لبناء سلم أهلي وطي صفحة الماضي. وقد استمر منعم في الحكم حتى سنة 1999. ودعماً لموقف الأمهات أثناء ولاية منعم، قدم الاتحاد الأوروبي لأمهات ساحة أيار جائزة ساخاروف لحرية الفكر سنة 1993. ومع قدوم يسار الوسط إلى حكم الأرجنتين، عاد الحديث مع الرئيس نستور كيرشنر عن وجوب العودة إلى الماضي ومحاسبة مجرمي الطغمة العسكرية المسؤولين عن فقدان أكثر من 30 ألف شاب وصبية لحياتهم. ووعد الرئيس الجديد الأمهات بفتح تحقيق موسع حول قضيتهن ومحاسبة كل من تثبت مسؤوليته عن الانتهاكات التي أحاقت بحقوق الإنسان. وتوصل القضاء، وبعد تسامح كارلوس منعم بسنوات، إلى مساءلة كبار المجرمين الأحياء وزجهم في السجن بناءً على محاكمات عادلة وشفافة.
أتيحت لي الفرصة أن أزور العاصمة الأرجنتينية أكثر من مرة، حيث أقوم بزيارة متحف الذاكرة القائم في مدرسة الميكانيك، وهي مركز التجميع الرئيسي للمعتقلين إبان حكم العسكر، حيث فُقد أولاد أمهات ساحة أيار. أغلب الضحايا تم رميهم من طائرات عمودية في عرض البحر لإخفاء جثثهم. وإمعانا في الإجرام، حافظ العسكر على حياة النساء الحوامل حتى الولادة، ومن ثم تخلصوا من الأم، وأهدوا الطفل إلى ضباط من الجيش للتبني. وكذلك، أحرص على موعدي مع الأمهات بعد ظهيرة كل يوم خميس. حيث ما زال تجمعهن مستمرا بمن بقي حتى يومنا هذا. ومنذ نهاية الديكتاتورية، صار دورانهن يتم بعكس عقارب الساعة لكي يعبرن عن رغبتهن بالرجوع بالزمن إلى الخلف للبحث عن الحقيقة ومعاقبة الجناة. لقد صارت خيمتهن اليوم معلماً أساسياً في الساحة. صور الأموات منهن أكثر من التواجد الفيزيائي للأحياء. لكن الخيمة صارت منبراً للتعبير عن الصمود وعن العزيمة لدى الأمهات بعيداً عن الأعياد والهدايا الاستهلاكية الأخرى. إن أمهات ساحة أيار في بوينس آيرس درس حي ومستمر على ضرورة تحطيم الصور النمطية، وخصوصاً ما يرتبط منها بالمرأة.