بهيج وردة – الناس نيوز :
يتناول أمين معلوف في أربع فصول، غشاوات، انجلاءات، سفن راسيات، استتارات، سيناريو نجاة الكرة الأرضية من كارثة نووية كادت أن تنهي الحياة في كوكبنا لولا تدخل “إخوتنا الغرباء”، أحدث رواياته الصادرة عن دار الفارابي بترجمة نهلة بيضون، في مارس/آذار 2021.
يتمتع أمين معلوف بكل صفات الجذب الذي يجعل موضوع أي من كتبه مادة دسمة ومغرية للقراءة، ومضمونة المتعة، ترى ألا زال هناك من يستمتع بالقراءة الورقية؟ أنا هنا أنحاز لكاتبي المفضل لسنين طويلة، وإن تركته لفترة لأبحث عن المزيد من الكتاب المفضلين، إلا أن لكتابته رونقاً لا يمكن مقارنتها بغيره، وإن كنت أظن أن بعض الترجمات هي ما دفعني لهجره ثم العودة إليه في وقت لاحق، وهذا مذاق شخصي تماماً، لكن الموضوعات التي يتقن اختيارها ومعالجتها تدفعك للتلفت حولك، والبحث عن الفيل في الغرفة، كأن يتحدث عن الهُوِيَّة في “الهويات القاتلة”، أو البيئة في “اختلال العالم”، أو الجندر في “القرن الأول بعد بياتريس”.
والآن عن نهاية العالم بسبب كارثة نووية في “إخوتنا الغرباء”، مع إشارة إلى فيروس قاتل.
اخترت الإشارة إلى فيروس كورونا في ثالث الفقرات من مقالي هذا (إذ أحاول تناول الرواية بطريقة لا تفسد متعة الراغب في القراءة)، لأن معلوف سبق وتنبأ بظهور هذا الفيروس في كتابه “… تخيلي على سبيل المثال أن ينتشر فيروس قاتل بسرعة فائقة، ولا يدل عليه أي عارض قبل انقضاء عدة أسابيع. في اليوم الذي يكتشف وجوده، سيكون قد فات قد فات الأوان، ولن يستطيع أحد أن يوقف انتشاره … وسيحكم على شعوب بأكملها من دون أمل بالشفاء”. فسألته متخوفا: “وهل مثل هذا الفيروس موجود فعلا؟”. “أرجو ألا يكون كذلك. ولكن بعضهم يعتزم تصنيعه”. إلى هنا وينتهي الاقتباس.
لا توجد إشارة أكثر وضوحاً أو نبوءة أشد بلاغة مما تناوله معلوف هنا، وإن كنا في خضم كارثة نووية، إلا أن الإشارة في منتصف الرواية أثناء الحوار لهذا الفيروس، يجعلك تتوقف لوهلة وتتساءل: هل هو خيال روائي أم يستند إلى معلومات ما؟ نظراً لكون معلوف صحفياً سابقاً إلا أن هذا لا يعني بالضرورة عدم وجود مصادر استند إليها، على الرغْم من تأكيده “في مقابلة على قناة مكتبة مولا الفرنسية على يوتيوب، أن هذا العمل مكتوب قبل كورونا، لا بل قبل كتابة ونشر كتابه الأسبق «غرق الحضارات»، أواخر 2019”.
إلا أن ما يميز شغل معلوف مؤخراً هو توجهه إلى المزيد من القضايا المعولمة، بعد عدد كبير من الروايات التاريخية المليئة بالخيال والإسقاطات المعاصرة، وهو ما برع فيه طويلاً، لكن من الواضح أن المرحلة التي وصل إليها عالمنا المعاصر من خيبات جعلت الروائي منغمساً في الراهن كما يقول في إحدى مقاطع الرواية: “سيقول المؤرخون الذين سینکبون غداً على دراسة حضارتنا، إنه كان يكفي أن تسدد خبطة إليها، لشدة ما أصابها العفن، لكي تنهار”، وهو تماماً ما يخشاه بشر كثيرون الذين توقع كثير منهم النهاية بكارثة نووية كما في الرواية التي تناقش هذه المعضلة “كان بإمكان آلة جهنمية، نووية أو بكتريولوجية أو كيميائية، أن تنفجر في حاضرة کبری، وتودي بحياة عشرات الآلاف من الأشخاص، وتبث الهلع في كل أنحاء الكرة الأرضية. ومع قليل من الحظ، كان من المأمول تأخير حدوث الكارثة سنة بعد، أو سنتين، أو خمس سنوات… ولكن هل كان بمقدورنا تفادي حدوثها إلى الأبد؟ بالطبع لا”.
لربما كان الموضوع أكثر جاذبية للقراء لو لم يأت فيروس كوفيد 19 ويحاصر حياتنا، ويدفعنا للعزلة الاختيارية بغرض الحماية مع كل التوصيات بالتباعد الاجتماعي الذي وقعنا فريسته، وربما نستمر إن وجدنا أنفسنا كسكان للكرة الأرضية أمام موجة رابعة، وربما موجات لاحقة من جائحة كورونا، لا أحد يعلم، وربما لا يكون هذا المزاج من أولويات القراءة في فترة التعافي من الفيروس، أو في خضم الموجة الرابعة التي تحاول الحكومات التقليل من أثرها بالتطعيم، لكن سحر الحكاية لا يتأثر، وينجح معلوف في إبقاءك مشدوداً بين دفتي كتاب “أو جهاز كيندل، أو شاشة كمبيوتر، أو موبايل في النسخة الالكترونية” ومستمتعاً، وربما تتخيل نفسك هذا البطل، ابن أم أمريكية وأب ذو أصول فرنسية وولدت في مونتريال، أو يمكنك تغيير الجنسيات لتناسب حكايتك، كي تنطلق في رحلة العودة إلى الأصول كما فعل بطلنا، عندما عاد إلى أرخبيل الشيرون، وتحديداً إلى جزيرتها الأصغر أنطاكية، التي تعود جذور والده إليها، ليجد نفسه في خضم مشكلة عالمية في عزلته على جزيرة لا يسكنها سواه والرسامة إيف، ولتكون هذه المنطقة لاحقاً مكاناً لأحداث عظيمة ومحط اهتمام العالم.
من أبرز المزايا التي أثارت وتثير اهتمام الناس كانت التطور الطبي الكبير، والرغبة في الوصول إلى الخلود لدى بني البشر، لمجاراة القادمين لنجدة الأرض، وفيما تتوارد إلى الذهن معجزة الشفاء التي قام بها المسيح للمجذومين، والمرضى، والمخلع وأعاجيب الشفاء الكثيرة، إلا أن المعجزة الروائية كانت في تشخيص الهموم المعاصرة التي يصاب بها إنسان العصر الحديث، فلم يتجمهر “… مجذومون، ولا مشوهون، ولا نتوءات بضخامة الفيلة. كانت جمهرة من المرضى، لا ریب، ولكنهم مرضی مثلي ومثلكم، بعض الأوجاع، بعض الهموم، جرعة من التوهم المرضي والإحساس بالتقدم في السن”، وهذا ما يحيل إلى الحياة الغريبة إن جاز التعبير، والهموم المعاصرة التي لم تكن تصنف في مصاف الأمراض، لأن سبب وجودها لم يكن موجوداً، فيما يعمل الكثير بجد للحصول على علاج يعيدهم إلى زمن لم تكن فيه الهموم والضغوطات النفسية مرضاً، كأن تأخذ قراراً بالهروب من التواصل الاجتماعي لتحافظ على سلامك الداخلي كفرد.
لكن الصراع للوصول إلى أعلى درجات التطور يستدعي بالضرورة خصوصية من نوع ما، لن تكون متاحة إن قرر الإنسان المعاصر نسخ التجربة المتطورة، وكيف ستكون الحضارة البشرية إن كانت مجرد نسخة عن تجربة أكثر تطوراً، خصوصاً عندما “ستكتشفون أن العلم والتكنولوجيا عندكم قد عفا عليهما الزمن، فنرسل لكم عندئذ كل علمائنا، وأساتذتنا، وستصبح جامعاتكم شيئاً فشيئاً فروعاً لجامعاتنا، وكذلك مدارسكم. إنها دوامة! وهذه المرة، إلى الأبد! ستتمازج شعوبنا، وسيتداخل عالمنا وعالمكم، إلى غير رجعة، وستضمحل حضارتكم، وستصبح حضارتنا ممسوخة …” .
وفي هذه فكرة عميقة تحث العالم المعاصر على المزيد من التأمل لتطوير ما يفيد دون انتظار لمجهول يمنع عنه الكارثة، وإن حضرت النجدة من حيث لا نعلم روائياً، فمن أين يمكن لمثل هذه المساعدة أن تأتي، إن نجح مخطط إرهابي في تفجير نووي بحق؟ أو كيف يحافظ الإنسان على المنجزات العظيمة دون أن يعرض نفسه لخطر الموت الداهم، والانهيار التام من كارثة محققة بالحرص على سلاح يهدد أكثر مما يحمي، فهل يصعب تخيل وجود حل يحمي الكرة الأرضية جمعاء من كارثة كونية، دون تدخل غير متوقع من الذين يسميهم معلوف “الغرباء”؟