ريما بالي – الناس نيوز ::
أن يذهب ابنك لحضور مباراة كرة سلة لتشجيع فريقه، ويعود إليك بعين واحدة أو ضلع مكسور، هو أمر بالغ السوء، ولكن الأسوأ منه، أن يعود جيل كامل وقد تشرب كره مدينة جارة أو شقيقة.
كتبت ماريبل: ” أنا بحب دمشق على قد ما بحب حلب، اليوم أول مرة بحس، إني بكرها لأن كتير من ناسها بيكرهونا بس لأنو نحن من حلب، للأسف”.
وفي مقطع سابق: “الحماس والندية جزء أساسي من الرياضة، بس كمان الرياضة أخلاق قبل ما تكون ربح وخسارة، ويبدو أننا كجماهير، على مختلف محافظات هذه الدولة، ساقطين أخلاقياً، وبالتالي طبيعي نكون ساقطين رياضياً”.
الحادثة التي وقعت منذ أيام في مدينة دمشق أثناء مباراة لكرة السلة بين نادي دمشقي وآخر حلبي، وأسفرت عن خسائر خطيرة ومؤسفة أولها أطراف وأضلاع مكسورة وليس آخرها أعين مفقوءة، تقول الكثير عما وصل إليه عنف الشباب في الوقت الحاضر ( لعله ظاهرة عامة تظهر في مناسبات ؟ )، عنف جسدي ولفظي وفكري، يحمل الكثير من العنصرية ورفض الآخر، الآخر الذي من المفترض أن يكون جاراً وشقيقاً، وشريكاً في التاريخ والجغرافيا والثقافة والمعاناة.
كتبت ماريبل أيضاً وهي فرد من المجموعة التي ذهبت من حلب إلى دمشق لتشجيع فريقها: “اللافت للاهتمام فعلاً هو وجود جمهور مضيف قضى نص المباراة عم يشتم مدينة حلب، وتلات رباعها عم يوجه (حركات أصابع مشينة) لجمهورنا يلي فيو كتير أطفال وعائلات وسيدات”.
نتساءل.. هل هذه الواقعة فريدة من نوعها وغير مسبوقة؟ بالطبع لا، تلك الواقعة هي تعبير عن ظاهرة منتشرة ومتجذرة في الطبيعة البشرية، وتتغذى على الجهل والانغلاق الفكري الذي عبرت عنهما ماريبل في منشورها ونعتتهما باختصار بالسقوط الأخلاقي.
ليفرض السؤال الثاني نفسه : لماذا يتلوث الشباب السوري في أعمارهم الغضة تلك بهذا السقوط الأخلاقي؟
كنت قد أنهيت منذ أيام قراءة رواية “نباح” للكاتب السعودي المعروف عبده خال، الرواية لها ما لها وعليها ما عليها، لكن الذي ذكرني بها وأنا أخوض بهذا المقال هو التشريح الذي قام به الخال لنفسية المواطن العربي، مبتدئاً بالمشاكل السياسية التي قامت بين السعودية واليمن قبل وإبان غزو العراق للكويت، ونظرة مواطني كل دولة إلى جيرانهم، وكمية الكره والرفض التي يشعر بها كل طرف تجاه الآخر.
وإلى جانب السعودية واليمن، طرحت الرواية نماذج من باقي الدول العربية، كالسودان ومصر والعراق والكويت وعكست لنا أيضاً كمرآة صافية، العنصرية التي يحملها كل شعب ضد الآخر، وبالأخص، تلك الشعوب المقيمة في دول متجاورة حدودياً، والتي هي بالتأكيد منحدرة من أصول واحدة وقد تحمل الدماء نفسها.
ولإضافة نغم إلى طنبور عبده الخال، أذكر أيضاً، وكيف أنسى، الدمار الذي تتسم به مؤخراً العلاقة السورية اللبنانية (شعبياً وليس سياسياً)، وخصوصاً بعد الحرب التي أفرزت كميات هائلة من النازحين الذين يواجهون اليوم اتهامات من بعض اللبنانيين بأنهم السبب الرئيس في الانهيار الذي يعيشه لبنان، من انحلال الاقتصاد إلى إفلاس المصارف وصولاً إلى انفجار المرفأ.
هل يعود كل هذا الكره إلى السقوط الأخلاقي الذي تحدثت عنه ماريبل؟ ربما، ولكن قبل أن نبحث عن الأسباب إليكم الخبر الجيد هنا: ليس الشعب العربي هو الوحيد المصاب بهذا المرض، فظاهرة العنصرية والعداوة بين الجيران والأشقاء هي ظاهرة عالمية وقديمة، وبقراءة بسيطة للتاريخ نستطيع تعداد الكثير من الثنائيات، إن كان ذلك على مستوى دول كتركيا واليونان، إنكلترا وإيرلندا، الهند والباكستان… أو على مستوى مدن كبرشلونة ومدريد… أو على مستوى قرى متجاورة والأمثلة كثيرة، تاريخياً ودرامياً، (أعمقها وأظرفها حين أمتعنا د.ممدوح حمادة بمسلسل ضيعة ضايعة الذي جسد العداوة الأزلية بين أم الطنافس والتخريمة )، أو حتى على مستوى أفراد من أخوة وأشقاء، ولنا عبرة في أقدم قصة في تاريخ الشعوب والأديان، وهي قصة أول وأشهر أخين عدوين: قابيل وهابيل.
بالعودة إلى أسباب هذه الظاهرة، يبدو واضحاً في كل الأمثلة، الاختلاف في الرأي أو العقيدة، التناحر على المصالح، الرغبة في التفوق والسيطرة. الإنسان كائن حي كأي كائن آخر في هذا العالم، وجد بطبيعة حيوانية قبل أن يستعمل عقله وينمي فكره، ليرتقي فوق مستوى باقي الكائنات وليتعلم كيف يسيطر على البذور الوحشية التي يحملها من عنف وكره وعدوانية، ولكن على مر العصور ورغم تطور الطبيعة البشرية ونزوحها إلى المدنية، تنبثق أحياناً عوامل كثيرة لتعيد إيقاظ تلك البذور المتوحشة في وجدان الإنسان، من أهم هذه العوامل: القهر والألم والشعور بالظلم والذل والإحساس بالدونية.
وبالمقابل وكرد فعل مختلف على نفس العوامل، ظهرت الفنون بمختلف أنواعها لتسمو بالجنس البشري نحو مدار آخر يتم فيه تدجين انفعالات البشر والتعبير عنها (على اختلافها)، بطرق جمالية تجعل هذا العالم مكاناً أفضل.
في عصرنا هذا، وبالرغم من ظهور الكثير من الحملات والحركات والمنظمات الداعمة للسلام والداعية لتقليص المسافات بين البشر، ورغم تطور الإبداع البشري في كافة مجالات الفنون والفكر والرياضة، إلا أنه لا يخفى على أحد، تنامي تلك البذور في النفوس المتخمة بالقهر والذل والدونية، تنمو تلك البذور بسرعة خطيرة لتصبح أدغالاً من الحقد والعنف والعنصرية، فمن يسقيها يا ترى؟
أؤمن شخصياً أن ثمة خطط ممنهجة لذلك، لكن أيضاً، وعلى صعيد أخر وأكثر سذاجة، أظن أن انتشار الميديا ومواقع التواصل الاجتماعي وما تحويه من حكم ونصائح ومواعظ واقتباسات (مجهولة المصادر والقائل)، قد تساهم ولو بشكل بسيط في تشويه الفكر وحبسه في مساحة معينة.
على سبيل المثال وليس الحصر تلك المنشورات (تنمية بشرية)، التي تحث المرء على أن يقدس ذاته ويراعيها أولاً وألا يسمح لأحد باستغلاله أو ابتزازه عاطفياً، وهذه نصيحة عظيمة طبعاً، قبل أن تتحول إلى آية مقدسة صار يتداولها الجميع، ما أدهشني وأظهر لي كيف أن الكل يعتبر نفسه ذلك الإنسان المضحي المتفاني والمستغَل من قبل الأخرين مع أنني أعرف تماماً أن الحقيقة غير ذلك، وأن الأنانية هي الصفة الغالبة على البشر ولست أجد داعياً لتغذيتها وتنميتها في النفوس.
ولأن الأمر بالأمر يذكر، قد يكون جيداً أن نعرف أن يوم 22 أغسطس/آب هو اليوم الدولي لإحياء ذكرى ضحايا أعمال العنف القائمة على المعتقد، فإذا اعتبرنا الانتماء لنادي رياضي معين هو معتقد، فإن ضحايا العنف الذي جرى في تلك المباراة السالفة الذكر مشمولون في هذه الاحتفالية، ولا أعرف كيف سيعيد هذا اليوم الدولي النظر لعين ذلك الشاب، لكنني أتمنى أن يطرح إجراءات جدية تقي باقي العيون، وتهدئ النفوس، وترتقي بالأفكار.
وعلى رأي أسعد: “والحشا ما حا لحا وما حا بحب حا، والتخريمة .. دايمان سابقيننا بخطوة”.