د . أحمد برقاوي – الناس نيوز ::
لم تفلح كل محاولات والدي الودية على حملي إلى دخول المدرسة، وأمي، مديرة المدرسة المختلطة في نوى، رفضت، بعد يوم واحد من دخولي المدرسة التي تديرها، أن أكون تلميذاً فيها، بسبب ما أنطوي عليه من عدوانية وشراسة وفوضوية غير قادرة على تحملها أمام المعلمات والتلاميذ.
لم يجد والدي بداً من أن يقودني من يدي عنوة إلى مدرسة البنين الريفية، وكان والدي صديقاً لمدير المدرسة، حميدان الفشتكي، الذي كان يأتي إلى زيارتنا دائماً.
دخلت الصف بصدريتي السوداء صاغراً، كذئب مأسور في قفص حديدي. والمعلم الشركسي الأشقر برجس يتمتم مع والدي مبتسماً.غاب والدي وأغلق المعلم باب الصف وراح يعلمنا. لم أنتبه إليه، وبقائي في المقعد دون حركة ضرب من المستحيل.
تقدم برجس مني ولطمني على خدّي، في لحظة كدت أفقد وعيي، ورحت أصرخ في وجهه، وأشتمه، وأنا أجهش بالبكاء، محاولاً الخروج من الصف، وقف المعلم مندهشاً أمام مشهد ربما لم يألفه خلال سنيّ شغله معلماً، فها هو يسمع تلميذاً وهو يشتم أمه وأباه ويستخدم جمل الشتائم المعهودة آنذاك، كنت أريد الخروج من الصف بأيّ وسيلة لأكمل المعركة بالحجارة، وعندما رآني بهذا الهياج والعصبية، وفي حالة هي أشبه بالاختناق، ودموعي على أشدها، فتح باب الصف وانتحى جانباً، والتلاميذ ينظرون بصمت إلى المشهد.
وخرجت، وما هي إلا دقائق حتى كانت الحجارة تنهال على باب الصف وشبابيكه، ويبدو أن المدير قد بعث أحد التلاميذ إلى الإعدادية المجاورة حيث يدرّس والدي، كي يعالج الحال.
رأيت والدي يتقدم إليّ بهدوئه الشديد، أخذني بين أحضانه وراح يقبلني، ويواسيني، وأنا أصرخ باكياً “ضربني، ضربني”، وهو يمسح بيديه دموعي.
أمسكني من يدي وقادني إلى البيت، وحين رأتني المربية المحبوبة أم صالح على هذا النحو، وهي التي لا تكف عن أن تشكوني لأمي، ولكنها تحبّني جداً وأنا أحبها، احتضنتني وهي تردد “خير يا حبيبي خير”. عادت أمي من المدرسة ورأتني في البيت. لم أرد على سؤال أمي لماذا أنا في البيت. لكنها وقت رأت علائم الغضب في وجهي وآثار البكاء عليه احتضنتني هي الأخرى وراحت تقبلني.
في صباح اليوم التالي: حاولت أمي أن تلبسني لباس المدرسة وأنا أبدي الرفض الشديد، لكنها بكل حنو قالت: سآخذك معي إلى المدرسة، وتجلس إلى جانبي في الإدارة. ذهبت ورفضت أن أدخل الصف، بعد أيام ما كان من أمي إلا أن أصبحت معلمة الصف الأول، ويبدو بأنها لم تجد إلا حلاً كهذا الحل لمشكلتي مع المدرسة. ومضت الأيام وأنا في المقعد أستمع إلى دروس أمي معلمة الصف الأول، مدللاً من الجميع، مهاباً من التلاميذ، معتداً بقوتي، شاعراً بحريتي.
في نهاية العام كنت أقف في باحة المدرسة في حفل توزيع “الجلاءات”، وقد حصلت على مرتبة الأول في الصف، لا أدري الآن طبعاً هل نلت مرتبة الأول لأَنِّي ابن المديرة، أم لأَنِّي أستحق هذه المرتبة عن جدارة.
في الصف الثاني انفصلت عن أمي، وتعلقت بمعلمتي الدمشقية الجميلة بهية ميداني، التي لم أنسَ اسمها ولن.
سنوات ست قضيتها في المدرسة على هذا المنوال، بين كاره للصف، ومحبّ له، دون أن تسري عليّ طقوس العنف المدرسي التي كانت تتم أمامي على تلاميذ المدرسة القرويين، وخارجاً عن العقوبات التي تجري أمامي من الصفع والوقوف على الحائط على رجل واحدةوالضرب بالعصا على الكفين، والفلقة. لم تكن العصا لتفارق يد المديرة، أمي، وأيدي المعلمات.
ولم تتغير أغلب ملاحظات المدرسات على جلائي آخر العام “ذكي، فوضوي، كثير الحركة والكلام في الصف”، ولم تتغير أيضاً مرتبتي في نهاية كل عام حتى الصف الخامس، والتي تراوحت بين الأولى والثالثة.
إني وأنا أستعيد هذه التجربة بعين العارف الآن للشروط التي تكوّن الشخصية في سنوات الطفولة الأولى، وبالعلاقة مع الجبلّة، أفهم كهولتي التي لم تغادر طفولتي.