محمد برو – الناس نيوز ::

في روايته الثانية، يعيد الروائي والصحافي شعبان عبود نبش الذاكرة السورية؛ ذاكرة الألم والأمل، ليس كروائي وأديب فحسب، بل كصحفي ينقّب عن أدق التفاصيل والتناقضات المدهشة التي تتسم بها حياتنا في خضم هذه الحرب والفوضى والضحايا الأبرياء والفساد المعاند.
إنها رواية تقدّم لنا شهادة على المحرقة السورية، وكأنها توثيق إنساني لهذه الحقبة الصعبة من تاريخ سوريا وأبنائها. إنه أدب يحفظ الذاكرة من الموات، ويعاند التزييف كفعل مقاوم.
تتجلّى التجربة السورية كفصل تراجيدي مأساوي في تاريخ المنطقة.
هذا الفصل يستدعي بمسؤولية كبيرة كل أدوات التوثيق والتحليل، حيث تتصارع الروايات السياسية والإعلامية والشعبية حول تقرير المسؤولية: على من تقع الجريمة؟ ومن هو الضحية؟ ومن هو المبادر بالعدوان؟ يبقى الأدب، بما يمتلكه من حسّ إنساني شجاع، الأقدر على تقديم الشهادة الأكثر قبولًا والأبعد عن أهواء السياسة والأيديولوجيا.
رواية “ناموا في منتصف الطريق” نزيف إنساني لشعبان عبود على مساحة الذاكرة الأدبية. ليست سردًا عفويًا لحكايات وأشخاص عبروا، بل تجسيد للمرارة الإنسانية التي تعكس تفاصيل وتضاريس المأساة السورية بكل تعقيداتها، والتي ضربت بمخلبها أناسًا في منتهى البراءة والبساطة، فأذاقتهم صنوف التهميش والتهجير والقمع والخيانة.
لكنها لم تبلغ منتهاها في قتل الأمل في نفوسهم. إنها حكاية جيل كامل صارع للبقاء بين الحب والموت، بين اليأس والأمل، بين الأحلام والوقائع الدامية، بين الانغماس في خضم الصراع والنزعة العارمة للخلاص.
تعرِض الرواية، بلغة غنية بالمعالجة الرمزية، ومن خلال حكايات عمر ومريم وكنان ونهى ومجيد وسليم، لوحة فسيفسائية للمجتمع السوري في رحلة الوجع والمنافي، من القرية إلى المدينة وإلى خارج البلاد.
لوحات بانورامية ممتدة زمانيًا ومكانيًا عبر أرياف سورية ومدنها، وصولًا إلى مدن اللجوء في تركيا.
صورة الكاتب السوري الأميركي شعبان عبود .

كيف تتحول تلك المدينة الحلم، “دمشق باب السماء وبلاد الجن”، إلى محرقة وساحة صراع يسود فيها الأكثر وحشية وقدرة على القتل.
هناك، حيث تصبح خطوط التماس الطائفية معيارًا للعلاقات، وأداة للفرز والتصنيف وبناء الجدران والعوائق.
سرد لا يعتمد التسلسل الزمني، بل يقفز من الحاضر إلى الماضي، وعبر مدن وقرى متناثرة على مساحة جغرافية طالما توحّدت يومًا ثم لم تلبث أن تبعثرت.
سرد يمنحنا إحساسًا بملحمية تحكي مأساة شعب ووطن، لا مجرد حكاية أفراد.
وأنت تتابع صفحات الرواية، ينتابك شعور عميق بأن شخوصها أيقونات محفورة في تلافيف الذاكرة، تمثّل شرائح واسعة تحمل الآلام والآمال، تبحث عن المعنى، ومرارة الفقد، ومخاطر الاعتقال، وتجربة النزوح، وصدمة الاغتراب، والسعي الحثيث للنجاة.
سليم: نموذج الشاب الريفي الذي تصدمه المدينة الكبيرة وهو في سعيه للتعليم وتحقيق الكرامة. يتدرج بمدارج الثقافة كوسيلة نبيلة للتغيير، يقرأ كافكا وشكسبير في مدينة آفس، لكن المدينة تصدمه وتحيل طيف أحلامه اليسارية بالعدالة الطبقية إلى مزيج مهين من الحذر والترقب والخيبة الطاغية.
وحين يعود في نهاية المطاف إلى قريته المدمرة، يجلس إلى قبر أمه يحكي لها مرارة الخيبة وموت الحلم.

عمر: فقد والده في حادثة غامضة بعيد استدعائه الأمني.
حبه لمريم، الفتاة الشيعية، يجسد صراعًا رمزيًا ضد القيود والتخندق الطائفي بصيغته الاجتماعية الأشد خطورة، لكنه لا ينج من حادثة طعن في إسطنبول، خارج ساحة الحرب السورية جغرافيًا على الأقل.
مريم: الفتاة الشيعية التي تعيش صراعًا بين حبها وأهلها وطائفتها. فالسكوت الذي يحميها من الذبح هو ذبح من نوع آخر .
تهرب إلى تركيا وتعيش مع عمر لتكتشف أن العلاقة الإنسانية هي الملجأ الآخر في وجه التمزق والخراب.
مجيد: ابن حي القابون، صاحب الروح الصوفية المتمردة التي تصارع التطرف المسلح. يتأرجح بين كرهه للنظام الذي يدفعه للالتحام بالثورة، وبين رفضه للعنف بكل صنوفه. يؤمن بأن “الحب أقوى من الطائفة والرصاص.” مصرّ على التوثيق لإيمانه بأن الثورة عين الصواب، لكن هناك من ضيّعها.
نهى: مقاومة الثقافة في مواجهة العبث والخراب.
مصرة على إحياء مكتبة والدها، ومتمسكة بأن “الثورة الحقيقية حين تنتصر على خوفك من أن تحب في زمن الكراهية.”
كنان: عدسة الروح وشاهد على التفاهة والجريمة. إيمانه لا يتزحزح بأن العدسة لا تكذب، وأن الحقيقة لها ضوء يُحَسّ ولا يُرى. إنه صوت الفن في مواجهة النسيان ومستودع الذاكرة.
جميع هؤلاء عاشوا الصراع وجملة التناقضات الحادة التي عصفت بسوريا أثناء ثورة أبنائها للخلاص من حكم مجرم قاتل. وبعد سقوطه، حين تدفع البلاد ضريبة الديكتاتورية مرتين: مرة بطغيانها وفسادها، وأخرى عند سقوطها، فهي لا تسقط حتى تمزق البلاد وتترك من يليها في صراع طويل مع تركة مثقلة بالدمار في الحجر والبشر. وحين يصبح فريق من الثائرين الذين ألفوا القتال والصراع متسيدين إدارة المشهد، وهم فقراء إلى أدنى مستلزمات الإدارة من معرفة وخبرة.
“ناموا في منتصف الطريق” ليست مجرد حكايات أو حواديت، بل كشف حساب صادم لما عشناه وما آلت إليه أحوالنا، وكشف لهشاشة الأوهام التي كانت تسكننا. في الوقت الذي نعرف جميعًا أن التاريخ غالبًا ما يزيفه الأقوياء ويكتبونه، فإننا نؤمن أن الأدب، بروحه الإنسانية، يستطيع استعادة الحقيقة وإبقائها ساطعة.
تبعث الرواية إلى قارئها رسالة مفادها أن قدرة الإنسان على الاستمرار والحياة أقوى من جميع الظروف، وأن لغة الحوار والمصالحة هي السبيل الأكثر أمانًا لعبور هذا النفق المظلم. إنها صرخة ألم ووعي تستنهض الضمائر وتطرح السؤال الصعب: هل سنتعلم من هذه الدروس؟
“ناموا في منتصف الطريق”. رواية لشعبان عبود
صدرت عن دار نينوى في 282 صفحة. نهاية شهر تموز 2025



الأكثر شعبية

خارطة طريق غاز ونفط سوريا… من الدمار إلى الإعمار؟


دمشق بين زيارتين …
