هدى سليم المحيثاوي – الناس نيوز :
ربما لم يكن الخطأ الذي ارتكبه عالم الفلك الإيطالي جاليلو جاليلي قبل أكثر من خمسمئة سنة، والذي قاد إلى محاكمته، دفاعه عن نظرية سلفه البولندي، نيكولاس كوبرنيكوس، الذي صاغ نظريته عن مركزية الشمس ودوران كوكب الأرض في فُلكها، بل في الغالب كان خطؤه هو تقديمُ فكرةٍ أخرى غير التي كان يؤمن بها ويرددها أصحاب النفوذ والسطوة، تمثلوا برجال الكنيسة آنذاك.
غالباً ما يؤدي اعتقاد البعض بامتلاك الحقيقة أو الفكرة المُحقة إلى اضطهاد آخرين بحجة عدم معرفة أو فهم هؤلاء الآخرين لهذه الحقيقة، ويزيدون عندما يُنصبون أنفسهم كأوصياء على هذه الأفكار أو ما يقولون عنه حقيقة. عندما نتحدث عن الأوصياء والوصاية، أول ما يخطر في بالنا هو الوصاية على المرأة وكذلك وصاية رجال الدين، التي أضحت حتى على أدق تفاصيل حياة الناس. أوضح أ.د صالح بن سعيد الزهراني، عميد كلية اللغة العربية بجامعة أم القرى، أن الوصاية عند أهل اللغة تعني الولاية على القاصر، والوصاية في المجتمع هو قيام فرد أو جماعة أو مؤسسة بفرض سلطة على أفكار الناس وسلوكياتهم التي لا تتفق مع أفكار الوصي، فرداً أو جماعةً أو مؤسسة، بحجة الصواب والحقيقة وحماية النسيج الاجتماعي والحفاظ على تماسكه ووحدته.
كذلك يرى د. الزهراني أن الوصاية لا تكون إلا حين ينفرد أناس بامتيازات خاصة، يمتلكون فيها الحق والحقيقة، ويصبح ما عداهم الباطل والضلال، لافتاً أن الوصاية شعور بالاستعلاء الذاتي، حيث أن الوصاية تعني قوي وضعيف أو عالم وجاهل.
كذلك يقول أ.د مراد وهبة جبران (1924) أستاذ الفلسفة في جامعة عين شمس في مصر: “إن الأوصياء هم الذين يزعمون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة بالرغم من قول كانط بأنه من المُحال ادعاء الإنسان بأنه مالكٌ لها”. والأوصياء، في مجال السياسة، هم الديكتاتوريون، وفي مجال الدين هم الأصوليون. وبقي سؤال وهبة، “لماذا يُسلم الإنسان عقله إلى هؤلاء الأوصياء؟!.
وفي الجانب الديني، حذر الدكتور سعدالدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر، من استخدام جماعات وأوصياء فتوى عبارة: “من لا شيخ له فشيخه الشيطان”. وأكد أن هذه الجملة ليست من الرسول الكريم، بل إن رسول الله قد قال: “استفتِ نفسك، استفتِ قلبك”، لكنهم، “يَقصد بهم جماعات إسلامية”، ابتدعوها من أجل تقسيم الشعب إلى “شيوخ” و “تابعين”، بدلاً من مبدأ سيادة الشعب واتفاقه على قانونه أو دستوره، فالهدف الأساسي، هو هدم الدستور والقانون لتحل محلهما مرجعيتهم البائدة.
هذا فيما يخص الظاهر من الوصاية، إلا أنَه وفي نظرةٍ سريعة للحياة من حولنا، نرى أن الوصاية تعدَت أمور المرأة والدين لتُعَممَ على كل مقاليد الحياة، فهناك أوصياءٌ على المرأة، الدين، الأفكار، الرأي، المشاعر وحتى العلاقات وطريقة التعامل مع الأشخاص وطريقة تعاطينا مع تفاصيل الحياة، عدا عن وصاية الآباء على الأبناء، ولا نغفل الوصاية السياسية للقوى العالمية على الدول التي يُطلق عليها اسم “الدول النامية”.
انظروا حولكم فسترون صديق/ة، حبيب/ة، أب، أم، شيخ دين أو حتى شخصية مؤثرة في العالم الافتراضي، جميعهم ينصبون أنفسهم أوصياء. وبينما يرى الوصي في نفسه حالة من التمام إن لم نقل الكمال، إذ يشعر أنه ليس بحاجة للتغيير ولا يتأثر به، من حوله فقط بحاجة لذلك، عدا عن أنَ الأوصياء هم أنفسهم قد رفضوا أوصياء في جزءٍ معين من حياتهم، ولكن لا يتوانون في جزءٍ آخر عن تنصيب أنفسهم كأوصياءَ لآخرين.
الوصاية تتم بحجة الصواب والحقيقة وامتلاك المعرفة ولكنها تتم بعيداً عن الأمانة، فهي لا تأخذ بعين الاعتبار الفروق الفردية بين الأشخاص، ولا تُعير اهتماماً لحرية الإرادة. حيث تجعلنا نُسخاً تؤمن بنفس الأفكار، وتختار نفس الاختيارات. كما أنها تحتوي على عنصرية ونوع جديد من تقسيم الناس. فالشخص الوصي يرى في نفسه مُمتلك لحقيقة لا يمتلكها الآخرون، وبالتالي هو أقل قدرة على احترام الآخر وسماعه، فهو ينتقص أصلاً من الرأي الآخر ويسعى لتبديل هذا الرأي الآخر برأيه الذي يراه حقيقة. فإذا ما دققنا بأمانة وحيادية، سنرى في أحاديثنا كم الآراء، إن كانت ذاتية أو حتى موضوعية وقد حولناها لحقائق نحاول جاهدين البرهنة عليها وإثبات صحتها. فتتداخل الآراء الموضوعية مع الآراء الذاتية مع الحقائق، والأسوأ تكلف الأشخاص بإثبات رأيهم فقط بسبب الهاء العائدة على شخصهم!
لا يقل سوء وضرر الوصاية الاجتماعية عن الوصاية الدينية، فهي تجعلنا أسرى لأحكام الآخرين علينا، وتقييمهم لنا، ومن هم في النهاية، هم أشخاص آخرون هناك من يطلق الأحكام عليهم، فندخل في حلقةٍ من الأحكام تُبعدنا عن تقبل واحترام الآخر، وليس معنى ذلك أن نكون مع أيٍ من الأشخاص فقط، لأننا نتقبله بل المقصود أن الحياة واسعة وفيها من الخيارات ما يناسبنا جميعاً.
إنَ كم القوالب التي يسعى من حولنا لفرضها علينا وكمية الطاقة التي يجب أن نصرفها فقط لنعبر عن تفضيلاتنا وما نحب في كافة تفاصيل الحياة، بدون أي اعتراضات أو أحكام من قبل الآخرين، أقل ما يمكن أن نصفها بأنها حرب وجود، حربٌ لنكون نحن بأنفسنا وبكامل حريتنا في التعبير عن تفضيلاتنا وما نحب بعيداً عن تدخلات الآخرين. إنَ فِكرنا، كلامنا، منطقنا في الحياة، علاقاتنا، ضعفنا، قوتنا، حبنا كرهنا، لا يحتكم لمبدأ الحقيقة والخطأ والصواب، بل إنها مجرد محاولات للحياة!.
بالرغم من اختلاف نظرة الفلاسفة للحقيقة وتفسيرهم لها، وتعدد المفاهيم التي أعطيت لها، حيث بدأ تناولها من وجهة نظر معرفية، واستمرت هذه النظرة إلى حدود الفلسفة المعاصرة. إلا أن أتى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889-1976) والذي يُعد من أهم الفلاسفة الوجوديين الذين عنوا بمسألة الحقيقة ووجه انتقادات للنظرة التقليدية، ورأى أنها محددة بالمعرفة ولا تستطيع أن تتجاوز حدودها، فمهد لتصور جديد لها، مُحدثاً انتقالاً كبيراً بتناولها في سياق أنطولوجي. وانتهى هايدغر إلى أن قيمة الإنسان الحقيقية تكمن في تعرضه للحقيقة وتعرضه لنورها، وهذه الحقيقة لا ينظر إليها في علاقتها بالمعرفة بل في علاقتها بالوجود.
أما الفيلسوف الأمريكي جون كورفينو حاول التفريق بين الرأي والحقيقة، وبدأ بزعم أن عبارة “هذا رأيك لا غير”، جملة مُضرة ويجب أن تودع اللهب (معللاً ذلك بأنه عندما يصف أحدهم أمراً بأنهُ رأي، نفترض أنه يريد أن يقارنه بأمر ليس رأياً، والمُرشح الأوضح لهذه المقارنة هو “الحقيقة”. ويؤكد كورفينو أنَ تصنيف الرأي لا يُستخدم للتقليل من مواقف الآخرين فقط، بل أيضاً لتفريغ موقف المُتحدث. واعترافاً بأن معتقداً شخصياً يختلف بشدة عن معتقدات الآخرين وثقافاتهم. إلا أن هذه العبارة تبقى أرحم في الحقيقة من أن يحاول شخص بأن يحوَل رأيه إلى حقيقة ويحاول جهده بأن يقنع الآخرين بها!
إنَ محاولات الأشخاص تمثيل قناعاتهم في الواقع تخلق هوة بين الواقع المُتعَدد كما هو وبين آراءنا التي نحاول تمثيلها كواقع حقيقي.. ما يخلق هوَة مليئة بالأفخاخ، تتصيد الأشخاص بسقطةٍ تلو أخرى.
اقترح جون كورفينو أن نتخلى عن التفريق المُلتبَس بين الحقيقة/الرأي، وأن نتخلى خصوصاً عن الرد الصارف للنظر القائل “هذا رأيك لا غير”. وعلينا بدلاً عن ذلك أن نركز على ما إذا كان للمزاعم التي يطرحها الناس أي أسباب تضطرنا إلى مشاركتهم وجهات نظرهم. أسباباً وجيهة لِمَا يقدمون. ويختم بقوله “هذا رأيي” وإن كنتَ ترى رأياً أفضل منه، لا تقل ذلك وحسب بل أخبرنا لمَ؟.
أما الآراء في حياتنا وتفاصيلها، فهي غنية بهذه التفاصيل والاختلافات فيما بيننا، والمهم فيها هو التقبل والاحترام لهذه الآراء حتى لو اختلفنا فيها. فليس من الضروري أن ينطلق المرء من إلغاء رأي الآخرين وإملاء آراء مختلفة عليهم، كذلك ليس المطلوب التراجع عن رأينا والنظر أنه ليس بأحسن من آراء الآخرين، حيث أن الإحجام عن مناصرة الإنسان لقناعاته خشية أن يفرض مجرد آراء سيكون فرصة لآخرين بفرض وصايةٍ بشكلٍ ما علينا. إذاً ربما يكون السر في “ماذا نريد، وكيف نريد ذلك الشيء”. كيف نريد أن نحيا، ومع مَن.. لعلّه سؤالٌ بسيط لكنه ربما يأخذ معنا حياةً بكاملها.
الحرية هي التي تُمكِن الإنسان من إيجاد علاقة مع الموجود في مجموعه وكليته، وبالتالي تمكنه من إنشاء تاريخ، والحرية في النهاية هي التي تجعل الإنسان يتوافق توافقاً وجدانياً مع الموجود في مجموعته وكليته.
يرى البعض أن مايمنع بعض الأشخاص من تقديم إبداعهم هو الخوف، وأنا أرى أن ما يمنع الإبداع، هي الأحكام الجاهزة في أقل التفاصيل. فدائماً ما تقابلنا الأحكام على أكلنا، شربنا، لباسنا، وحتى طريقة تسريحة شعرنا وشكلنا العام، كل ذلك قبل أن نتكلم حتى، فاخرجوا من هذه الأفخاخ، وافتحوا عقولكم وقلوبكم، وافتحوا أبواب الحياة، وجدوا طريقكم وبابكم. لعل معظم المبدعين كانوا “غريبين” عما حولهم، ولسنا بحاجةَ المزيد من النسخ، فالحياة فيها من التشابهات ما يزيد.
كفوا عن نسخ أنفسكم في غيركم فلنا فيكم الكفاية، ودعوا غيركم يفتح لعقله أبواباً واعتقونا من تفضيلاتكم ذلك خيرٌ لكم، ولنا.. إن كنتم تعقلون.
أعطوا الحرية لعقولكم ودعوها تنطلق، فلا وصاية على أنثى، ولا عقل ولا كلمة ولا تعبير ولا عاطفة، هي جميعها ملككم فلا تسمحوا لغيركم بتوجيهها، ولا تستسلموا لوصاية أحد، واخرجوا من جميع العباءات، ولا تترددوا في التعبير عن أنفسكم، فهناك حالة مُقابلة لكل وصاية، تتمثل بعدم الفعل أو الانسياق من قبل الموصى عليهم.
فعدم تعبير الشخص عن نفسه سبباً لانحسار مساحته الشخصية، وفرصةً لآخرين ليقوموا بدور الوصاية عليه/ا، وهؤلاء قد يدفعون جزءاً من أفكارهم وموهبتهم وإبداعهم في سبيل عدم الاضطهاد ممن حولهم.
إن آراءنا عن أنفسنا وآراءنا عن الآخرين ليست هي الواقع، بل هي آراء ذاتية لن تصبح حقيقة، وعلى نهج كورفينو، هذا رأيي، فإن ملكتم أفضل منه، يعني أنكم عالقون في فخ الرأي الأفضل!.