أهي حاجة العالم إليك أم أنها حاجتك إلى العالم؟ إنها لمسألة لا جوابَ قاطعاً في حلها، فالسؤال مزدوج ومحكوم بعلاقة “جدلية” كما هي الصفة المستخدمة في الزمن الثقافي الماركسي، ومن صعوبة الجواب سهولةُ التواصل بين دول العالم بفضل هذا التطور الكبير في وسائل الإتصال الأرضية والبحرية والجوية والسمعية البصرية. يصعب على بلدٍ معادٍ للبلد الذي انطلقت منه وسيلة التواصل الكوني ” الواتس أب” أو ما شابه أن يقاطع هذا النتاج، وإن هو فعلها فيكون ذلك بشكل محدود وذلك لسبب قد يراه أمنياً أو لآخر اقتصادي محلي فحواه تفادي خسارة محتملة في محاصيل الاتصالات الهاتفية الخارجية. والبلد الذي تراود حكامه فكرة مقاطعة منتَج بلد دخل في صراع معه لا ينسى أن يأخذ بعين الاعتبار النتائج السلبية لمثل هذا القرار على اقتصاده أيضاً، فصحيح أن المنتَج مستورد لكنه يشكل بذاته عنصراً من عناصر دورة اقتصاده، وكيف إذا كان هذا المنتَج مُصنعاً على أراضيه وبأيادي أهله؟
منتجات كثيرة مستوردة في الأساس بات يُصنع جزء منها أو حتى كاملة في البلد الذي كانت تورد إليه، أي أنها دخلت في دورة إنتاج واقتصاد هذا البلد من السيارات إلى الملبوسات إلى المواد الغذائية وحتى الزراعية أكانت نباتاً في الحقول أو تصنيعاً غذائياً.
من كان يتصور أن تنتهي الحرب الباردة التي استمرت أكثر من أربعة قرون بتحرير اقتصادي وثقافي وسياسي للاتحاد السوفياتي حمل عنوان الـ “البروستْرَيكا ” ومعنى الكلمة إعادة الهيكلة في برنامج إصلاحات ؟ وتحرير مماثل للاقتصاد الصيني على المستوى الدولي مع دول “العداء” وإن حافظ على شيوعيته؟
يفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا إثر الأزمة الأوكرانية في عام 2014 وترُد روسيا بعقوبات مضادة وتبقى العلاقات مفتوحة بين الجانبين، فلا تمنع العقوبات من تبادلٍ لنوايا التعاون، فرنسا ورغم العقوبات تعلن عن إقامة علاقات جيدة مع روسيا، ومثلُها ألمانيا التي يربطها بروسيا مشروع غاز الشمال اثنان. والعقوبات الأوروبية الجديدة في قضية نافالني المعارض الروسي الذي تم تسميمه وعولج في ألمانيا وعاد إلى روسيا ليُحكم عليه بالسجن في واحدة من قضايا عدة أثيرت ضده اقتصرت على أربعة مسؤولين كبار روس.
لا قطيعة بالمطلق بين الدول المتخاصمة إلا فيما ندر. فمع قليل استثناءات، لا يكاد يُقفل باب بين هذه الدول دون العثور على فوهة فيه أو التفتيش عنها ليكون منها العبور المتبادل بين الجانبين أو لإعادة فتحه. فُتح الباب الموصد بإحكام ولسنوات طويلة بين الولايات المتحدة الأميركية وكوبا، وما زلنا عند فوهات الباب الموصد بينها وكوريا الشمالية سمحت بالعبور دون أن تبلغ درجة فتحه حتى الآن.
صحيح أن عصر الاستعمار انتهى، لكن لم تنته حاجة بلد ما إلى بلد آخر كان استعمره أو العكس. من مصلحة البلد القوي المستعمِر سابقاً أن يعُم الأمن والاستقرار في بلدان العالم ففي ذلك ما يسمح بتسويق منتجاته بمختلف أنواعها التجارية والثقافية وفيها أيضاً الاستفادة المشروعة والمباركة -هذه المرة- من إمكانيات هذا البلد الإنتاجية من مواد أولية ويد عاملة غير مكلفة ولربما قربه من بلدان أخرى ما يُسهل نقل المنتَج في هذا البلد إليها.
نعم، الحدود المقفلة شكلاً باتت مفتوحة عملياً، والكل في هذه الحال بات عالمياً أَعَلِمَ بذلك أم لم يعلم، ولهذه الحال أعطيت صفة العولمة، وحملت هذه الكلمة الكثير من التأويل وتراوَحَ الرأي فيها بين الإشادة والخوف المُبرر بذريعة أنها تصب في مصلحة البلد الأقوى إقتصادياً وعلمياً وثقافياً وسياسياً وفق نظرية خلاصتها أنه طالما أنك لم تبلغ درجة حاجة العالم إليك فأنت مستَعمَر عن بعد. نظرية لا يتوانى معارضون لها في وصف أصحابها بذوي النظريات الجليدية الصخرية مستندين في ذلك إلى تجربتين عالميتين لليابان وألمانيا، وهما البلدان اللذان خرجا مثقليْن بخسارتهما في الحرب العالمية الثانية ليصبح الأول ثالث أقوى اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية والصين والثاني ألمانيا الرابع في الترتيب. وهكذا يصبح الخوف من العولمة تعبيراً عن عجزٍ أو استسلاماً لهذا العجز مع مكابرة عمياء جوفاء في الغالب.
محمد كلش