[jnews_post_author ]
ما بعرف كيف كنّا عايشين؟ كلّ يلّي بعرفه أن جعبتي ممتلئة بقصص وحكايا مؤلمة عن الأيام التي عشناها تحت حكم آل الأسد.
من تلك القصص، ما جرى معي في أواخر آب 1979، عندما عدتُ من بيروت بعد أن أنهيت ثلاثة أشهر من العمل الشاق في معمل الحديد في بيروت وفي جيبي 1500 ليرة لبنانية وهو مصروفي للعام الدراسي، ولدى وصولي إلى شتورا صرّفت المبلغ، وقد بلغ حينها حوالي 2200 ليرة سورية، حيث كانت الليرة اللبنانية تساوي حوالي ليرة ونصف ليرة سورية. وبسبب حالة الفقر التي كنا نعيشها، كنت أضطّر للعمل حتى خلال عطلة الربيع لتغطية مصاريفي المدرسية ومساعدة أهلي في مصاريف البيت أيضاً.
كان عمري حينها لا يتجاوز السبعة عشر ربيعاً، استقليت سيارة تكسي من ساحة البرج ببيروت باتجاه شتورا في البقاع اللبناني ومن هناك ركبت بسيارة الدودج الشهيرة ذات اللون الأصفر، باتجاه حمص، كان فيها أربعة أشخاص على ما أذكر اثنان من حلب واثنان من حماه وانا الخامس من حمص، ولدى وصولنا إلى نقطة تفتيش جوسية- القصير طُلب منّا النزول من السيارة للتفتيش، شاهد المفتش مسجلة صغيرة فسأل عن صاحبها، فرفع أحد الركاب يده قائلاً إنها له.. قال له المفتش هذه المسجلة مصادرة ويجب أن تدفع غرامة أيضاً، وقال عبارة لم أفهما “هذه المسجلة مستوردة تهربياً”. فقلت له شو يعني مستوردة تهريب؟ رمقني المفتش بنظرة لئيمة قائلاً: “لا تتدخل فيما لا يعنيك”! فقلت له: “إي مو محرزة كلّها مسجلة، إي شو مهرب حشيش؟ استدار المفتش نحوي وضربني كف على وجهي كدت أقع على الأرض من قوته، ثم قال لي بصوت عالً: “عم تحكي كلام أكبر منك، روح انضب بالسيارة أحسن ما تشوف شي ما بيسرّك”.. فقاطعته قائلاً بعد أن استجمعت قواي: “إي هيّ مسجلة صغيرة والزلمة فرحان فيها ومو مصدق؟ روحوا شوفوا يللي عم يهرّب أطنان من الحديد و..”
في هذه اللحظة وقعت أرضاً بعد أن رفسني المفتش بلبطة على مؤخرتي. تجمع على أثرها عدد من عناصر الأمن وسحبوني إلى داخل الغرفة وبدأوا التحقيق معي. من وين انت؟ وشو اسمك؟ وشو جايب معك؟ وانت لسانك طويل بده قص ومن هالحكي.. وفي هذه اللحظات دخل عنصر أمن وبيده ورقة وقال لشخص يجلس خلف الطاولة ويبدو أنه الضابط المسؤول عنهم: سيدي هذه الورقة لقيناها في شنطة هذا الولد وهو يشير عليّ.. أخذ الضابط الورقة بعد أن قرأ المكتوب فيها واتجه نحوي وكمان كتائبي وجايب منشورات بدك تروج للكتائب ولاه؟ قلتُ له كتائب شو يا سيدي؟ أدار الورقة باتجاهي وطلب مني قراءة العبارة المكتوب فيها، فقلت له إي شو يعني؟ صرخ في وجهي مكرراً طلبه بأن أقرأ الورقة، قرأت العبارة بصوت مخنوق “الكتائب اللبنانية” وكانت العبارة مكتوبة بخط أسود عريض ووفوقها شعار الكتائب اللبنانية باللون الأخضر على ما أذكر.
سألني الضابط: من أيمتي بتشتغل مع الكتائب؟ فقلت له: الورقة ليست لي ولا علاقة لي بها، قال الضابط بسخرية: “يعني هي دخلت لحالها إلى شنطتك؟” قلتُ له: “ما بعرف، وبعدين مستحيل يكون لقاها بشنطتي، لقد قفلت حقيبتي بعد تفتيشها”.. عندها طلب الضابط من العنصر إحضار حقيبتي، ارتبك العنصر فسأله الضابط: شو في؟ ليش واقف ما تروح تجيب شنتطه؟ أجاب العنصر سيدي ما بعرف شنطته؟ وهنا أدركتُ أن العنصر كان يريد الانتقام مني بهذه الورقة، فقلتُ للضابط: “سيدي كيف وجد الورقة بشنطتي إذا هو أصلاً ما بيعرفها، ولاّ لأنه انزعج من كلامي يريد أن يلبسني هذه التهمة؟” وهنا سألني الضابط: “ليش شو حكيت؟” ألله وكيلك يا سيدي ما قلت شي بيستاهل هالتهمة، لما شفت المساعد بده يصادر مسجلة صغيرة لرفيقنا بالسيارة، قلت له مو مستاهلة شو يللي عم يهرب أطنان من الحديد.. عندها صفعني الضابط على وجهي وقال: ” وأنت شو دخلك؟ إذا صاحب العلاقة ما حكى؟ لتكون محامي ومو عرفانين؟ الهيئة مو بس لسانك طويل وكمان قليل أدب، وصار لازمك تأديب حتى تتعلم ما تتدخل بشيء لا يعنيك”!
ساد الصمت في الغرفة لبرهة قصيرة، ثم طلب الضابط احضار شنطتي ليتأكد أنها مقفلة، وبعد أن تأكد من صحة كلامي طلب هوّيات ركاب السيارة، فتبين له أنني المسيحي الوحيد- ثم سألني: “وين كنت تشتغل في بيروت؟ أجبته: كنت أعمل في وادي شحرور، فهزّ رأسه قائلاً: ” يعني كنت عايش مع الكتائب”، ثم طلب من أحد العناصر تفييش أسمي، فتبين لهم أن أخي الكبير متخلف عن الاحتياط. وهنا قال الضابط موجهاً كلامه لي: ” وهاي اخوك مطلوب احتياط وهربان من خدمة الوطن، ليكون كمان عم يخدم عند معلمك بشير الجميل، إي واضحة ما بدها شرح، هات لشوف، شو هي المهمة التي كلفك بها بشير الجميل؟” قلتُ له: مين بشير؟ ضحك الضابط وقال ساخراً: “معلمك بشير هلق ما عاد تعرفوا؟” فحلفتُ له بالله أنني لا أعرفه.. وأمام إصراره على اتهامي بأنني أنتمي إلى الكتائب اللبنانية، قررت أن أعترف بأنني أنتمي للحزب الشيوعي، فقلت له: “مستحيل كون كتائبي!” فسألني: “ليش مستحيل؟” قلتُ له: “يا سيدي، لأني شيوعي، ونحنا والكتائب أعداء، قاطعني الضابط: مين أنتو؟ قلت له: “نحنا الشيوعيين”، فرد الضابط ساخراً: هلق بدك ياني صدق إنك شيوعي ومانك كتائبي؟ فقلت له: ” بشو بدك أحلف؟ وإذا مانك مصدقني سيدي فيك تتصل بشعبة المخابرات العسكرية بتلكلخ وتسألهم عنّي، إنهم يعرفونني جيداً، وملّفي كبير لديهم، وبعدين أنا من قرية عين الغارة يلّي بيقولوا عنها موسكو الصغرى، وإذا طلعت كذاب فيك تعدمني”.. سألني الضابط هنا: “شو يعني موسكو الصغرى؟” أجبته: “من كثرة الشيوعيين فيها”.
وهنا داخل شخص يرتدي طقم بيج وكرافة، وبعد أن سلّم على الضابط، سأله: خير شوفي؟ أجاب الضابط: “ألقينا القبض على عميل لحزب الكتائب ومعه منشورات كتائبية. نظر الشخص صاحب الطقم إليّ بغضب قائلاً: “عميل كتائبي هادا يلّي كان ناقصنا”! فقلتُ له: “مو صحيح والله يا سيدي”، أنا شيوعي وحياة ألله، ومعروف من المخابرات بتل كلخ”. سخر منّي صاحب الطقم قائلاً: ” شيوعي وبتحلف كمان باسم الله! أي صدقناك كتير، من وين أنت”؟ قلتُ له: “من حمص من وادي النصارى”.. “إي من وين، من أي ضيعة؟” قلت له: “من قرية عين الغارة”، وهنا طلب هويتي، فقلت له: مع الضابط. اقترب صاحب الطقم من الضابط واطلع على هويتي، ثم دردش معه بكلام غير مسموع.. بعدها خرج الضابط ومعه صاحب الطقم، وبعد حوالي عشر دقائق عاد الضابط لوحده، وقال لي: ” هلق بيكون انتهى الدوام بتلكلخ، لكن بكرا رح نتصل بشعبة المخابرات ونسأل عنك، وهلق رح نتركك تروح على بيتك، ويا ويل ويلك إذا طلع كلامك مو صحيح من جيبك من بطن أمك!” خرجتُ مسرعاً من الغرفة باتجاه السيارة التي كانت تنتظرني، صعدتُ إليها دون أن أتفوه بأية كلمة، سمعت السائق يقول: “لا نريد مشاكل أبقى هكذا صامتاً حتى نصل إلى حمص”.
بعد حوالي شهر اكتشفت أن صاحب الطقم ضابط كبير مسؤول عن الجمارك في جوسية، ومن حسن حظي أنه شقيق زوجة عمّي المساعد الذي كان يخدم حينها في مطار التيفور بتدمر. وأنا لا أعرفه، بينما هو يعرف أهلي وأخوتي الأكبر مني، وهو من أكد لضباط المخابرات أنني شيوعي ومن عائلة شيوعية.
________________________________________
ميشال شماس