ميديا ـ الناس نيوز ::
القدس العربي – هبة محمد – بعد موجة من الاحتجاجات أثارها قرار قوات «سوريا الديمقراطية» بإغلاق المدارس المسيحية في الحسكة والقامشلي، أطلقت مؤسسات دينية ومجتمعية، تحذيرات جدية بشأن التداعيات المحتملة، إذ إن الخطوة تفتح الباب أمام «تهجير ثقافي وديموغرافي صامت»، فضلا عن تأثر مئات العائلات التي فقدت مصدر دخلها الوحيد.
خلاف على المناهج
وكانت قد أغلقت «قوات سوريا الديمقراطية» جميع المدارس الخاصة التابعة للمكوّن المسيحي من سريان وأرمن في شمال وشرق سوريا، عبر اقتحام وإغلاق عدد منها وطرد طلابها وكوادرها التدريسية، وسط خلاف متصاعد بين «الإدارة الذاتية» ورؤساء الكنائس حول قضية فرض المناهج التعليمية. إذ ترفض الكنائس استبدال المنهاج الحكومي السوري بالمنهاج المعتمد من قبل الإدارة، معتبرة ذلك «تهديدا مباشرا لمستقبل آلاف الطلاب ومصير العملية التعليمية في المنطقة».
وشملت المدارس التي طالها الإغلاق مدرسة مار قرياقس (السريان الأرثوذكس ـ حي الأربوية) والسلام (الأرمن الكاثوليك) وميسلون (الإنجيليين) وفارس الخوري (الآشوريين) والاتحاد (الأرمن الأرثوذكس).
واعتبر مسؤول في المجلس الاجتماعي الأرمني التابع للإدارة الذاتية، فضل حجب هويته لأسباب أمنية، القرار «ضربة قاسية للعملية التعليمية وللاستقرار النفسي والاجتماعي للطلاب وأهاليهم»، مؤكدا أن له «آثارا عميقة على جيل كامل عاش سنوات الحرب بكل ما فيها من معاناة ومآس».
ولفت المتحدث في اتصال مع «القدس العربي» إلى أن «هذا الجيل لم يكد يخرج من أجواء الحرب الممتدة منذ سنوات طويلة حتى وجد نفسه مهددا بالحرمان من حقه في التعليم، وهو ما يعني أن المستقبل يضعه أمام احتمال التحول إلى جيل ضعيف وفاشل، الأمر الذي يمثل كارثة حقيقية قد تؤدي إلى تفشي الجهل وتفاقم صعوبة التأقلم والتكيف مع متطلبات الحياة».
وأوضح «أن المناهج التي كانت تُدرّس في المدارس المسيحية الخاصة هي ذاتها مناهج الدولة السورية المعتمدة في مختلف المدارس، غير أن تلك المؤسسات كانت تقدّم إضافة نوعية، تضمنت حصصا لتعليم اللغة الأرمنية، كما كانت مادة التربية الدينية تُدرّس باللغة الأرمنية، وهو ما منح الطلاب فرصة للحفاظ على لغتهم الأم والتشبث بجذورهم الثقافية والدينية».
وبيّن أن «القرار ترك أثرا بالغ السوء على العاملين والإداريين المسيحيين في تلك المؤسسات التعليمية، إذ إن مئات العائلات فقدت مصدر دخلها الوحيد الذي كانت بأمسّ الحاجة إليه، كما خسر المدرسون والإداريون سنوات طويلة من الخبرة التراكمية، مما زاد من حالة الإحباط والشعور بالظلم».
وأشار إلى أن «المدارس المسيحية، وخاصة تلك التي تمتلك جذورا تاريخية عميقة، لم تكن مجرد مؤسسات تعليمية تقليدية، بل كانت تؤدي دورا محوريا في صون الهوية الدينية والثقافية للمجتمع المسيحي، حيث شكّلت التربية المسيحية جزءا أساسيا من المناهج المعتمدة فيها، وكانت تزرع في نفوس الطلبة القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية المستمدة من الإيمان المسيحي»
كما كانت هذه المدارس، وفق المتحدث «بمثابة مساحة آمنة لممارسة الطقوس الدينية وإحياء القداديس والصلوات الصباحية والأعياد، بما يصب في تعزيز ارتباط الأجيال الجديدة بإيمانها وهويتها الدينية».
ولفت إلى أن هذه المدارس «لعبت أيضا دورا مهما في تكوين كادر ديني واجتماعي واع، حيث توجه عدد كبير من خريجيها لاحقا للعمل الكنسي أو الانخراط في الخدمات الاجتماعية المرتبطة بالكنيسة، إلى جانب مساهمتها في تدريس مواد تعليمية ركزت على التاريخ المسيحي المحلي، ما ساعد الطلاب على فهم جذورهم الثقافية والدينية بصورة أعمق.
ومن خلال الأنشطة المدرسية المختلفة، كانت هذه المؤسسات تحيي المناسبات الثقافية المسيحية التقليدية مثل عيد الميلاد والفصح ويوم القديسين، وهو ما ساعد في ترسيخ الذاكرة الجماعية للمجتمع وتعزيز شعوره بالانتماء».
محاولات الإلغاء والطمس
وأضاف أن «الأمر لا يقتصر على المدارس السريانية وحدها، بل يشمل أيضا المدارس الأرمنية التي تُعدّ الأكثر حساسية في هذه المرحلة، إذ إن إغلاقها اليوم لا يمكن فصله عن الذاكرة الجماعية الأرمنية ولا عن التاريخ المؤلم الذي يحمله الأرمن في وجدانهم، خاصة ما يتعلق بالإبادة الجماعية عام 1915، التي استهدفت اقتلاع شعب كامل من جذوره الثقافية والدينية واللغوية. لذلك، فإن إغلاق المدارس الأرمنية لا يُنظر إليه باعتباره مجرد إجراء إداري، بل يُعتبر امتدادا رمزيا ومؤلما لمسار طويل من محاولات الإلغاء والطمس التي عانى منها الأرمن على مدى قرن كامل».
وأكد أن «المدارس الأرمنية تمثل الحصن الأخير للغة الأرمنية وللتاريخ والطقوس الدينية الأرمنية في الشتات، لا سيما في المجتمعات التي يعيش فيها الأرمن كأقلية، وهو ما يجعل من قرار إغلاقها تهديداً مباشراً لوجود هذه الهوية الثقافية والدينية واستمرارها عبر الأجيال».
تهديد استمرارية التعليم
وأكد أن «إغلاق المدارس المسيحية يهدد استمرارية تعليم التربية الدينية المسيحية والحفاظ على الهوية الروحية والثقافية للأجيال الجديدة، «فغياب هذه البيئة التربوية والروحية نتيجة إغلاق المدارس يعني أن الأجيال القادمة قد تفقد تدريجيا الصلة بالكنيسة، وباللغة الطقسية التي تمثل جزءا أساسيا من الهوية المسيحية».
وتابع: «نحن نطالب بحقوقنا الإنسانية والدستورية قبل أن تكون مطالب دينية أو طائفية. نحن لا نطالب بامتيازات خاصة، بل بحق أصيل في الوجود والتعليم والكرامة. نحن كمجتمع مسيحي يتشكل من الأرمن والسريان والكلدان والآشوريين، نعيش على هذه الأرض منذ قرون طويلة، وقدمنا خلالها تضحيات كبيرة للحفاظ على هويتنا ولغتنا وإيماننا، معتبرا أن «إغلاق مدارسنا أو التضييق على مناهجنا الدينية والثقافية يُفهم على أنه تعدٍ مباشر على هويتنا وحقوقنا الأساسية، كما يشكل تهديدا واضحا للتنوع والتعددية، وهي القيم التي يُفترض أن تُصان في أي مشروع ديمقراطي حقيقي».
ولفت إلى أن الخطوات التي أقدمت عليها «قسد» تضعف الثقة بين المكونات المجتمعية المختلفة، و»تفتح الباب أمام تهجير ثقافي وديموغرافي صامت، قد يؤدي إلى تآكل النسيج الاجتماعي والتنوع الثقافي الذي شكل هوية المنطقة على مدى قرون».
وطالب المسؤول «الإدارة الذاتية (قسد) بالاعتراف الرسمي بحق الأقليات في التعليم الخاص والديني، وذلك من خلال إصدار بيان واضح يعترف بحق المدارس المسيحية، ولا سيما المدارس الأرمنية، في الاستمرار بتقديم مناهجها التي تحترم الخصوصية الثقافية والدينية لمجتمعنا».
وشدد على أن «هذا النوع من التعليم لا يتعارض مع مشروع المواطنة أو القيم الوطنية، بل يعززه من خلال احترام التنوع الثقافي والديني واعتباره جزءاً من بناء مجتمع متكامل ومتعدد المكونات».
كما طالب بـ«وقف أي قرارات أو إجراءات قد تؤدي إلى إغلاق المدارس أو فرض مناهج تعليمية لا تراعي الخصوصيات الثقافية والدينية للمجتمع المسيحي»..
وجدد رفضه فرض مناهج تعليمية «لا تتوافق مع خصوصياتنا، وأكد على «ضرورة العودة إلى الحوار المفتوح والمستمر مع الكنائس والمؤسسات التربوية المسيحية قبل اتخاذ أي قرار يمس مستقبل التعليم في منطقتنا».
وإزاء حماية حقوق أبناء الديانة المسيحية الثقافية والدينية، قال: «نؤمن بمشروع التعددية والديمقراطية، ولكن لا ديمقراطية حقيقية من دون احترام خصوصية المكونات، ولا مساواة حقيقية من دون ضمان فعلي للحقوق الثقافية والدينية والتعليمية، لذلك نطالب بضمان حقنا في تدريس التربية المسيحية واللغة الأم، سواء كانت سريانية أو أرمنية أو كلدانية، ضمن مؤسساتنا التعليمية الخاصة. هذا الحق مكفول بموجب المواثيق الدولية لحقوق الإنسان».
كما طالب «بتأسيس لجنة تربوية مشتركة تضم ممثلين عن الكنائس والمدارس المسيحية، لتكون الجهة المعنية بتنسيق أي قرارات مستقبلية تتعلق بالتعليم، بما يضمن مشاركة المجتمع المسيحي في صياغة سياسات التعليم الخاصة به».
افتقاد المبادرات
ولفت إلى أن المنطقة «تفتقد لأي مبادرات مجتمعية أو كنسية للتعامل مع تداعيات إغلاق المدارس المسيحية في القامشلي، ما يعني ذلك أن المجتمع المسيحي في المدينة يواجه مرحلة غير مسبوقة من الانقطاع التعليمي والديني، لا سيما بالنسبة للأطفال، الذين يعتمدون على هذه المدارس ليس فقط للتعليم الأكاديمي، بل أيضا للحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية وممارستهم للطقوس الروحية».
وكانت أبرشية الجزيرة التابعة لكنيسة الاتحاد المسيحي، قد ناشدت قائد قوات «قسد» مظلوم عبدي للتدخل «لإلغاء قرار فرض مناهج الإدارة الذاتية على المدارس لأن له تبعات ونتائج قاسية على مستقبل عشرات الآلاف من الطلاب، وحتى الآن هم خارج المدارس، مما يعني مستقبلا مجهولا والأهالي يعيشون في قلق بسبب أولادهم».
وعزت السبب إلى أن «منهاج الدولة ليس تابعا لنظام معين بل هو منهاج معتمد من العالم، وعندما يتم الاعتراف بمنهاج الإدارة سنكون أول الداعمين لهذا القرار».
ودعت، إلى «التراجع عن قرار أخذ مبنى جامعة الفرات»، مؤكدة أن «آلاف الطلاب سوف يضطرون للدراسة خارج المحافظة مما له من تبعات اقتصادية ومعنوية خاصة في ظل الظروف الحالية».



الأكثر شعبية

بيرلا حرب ملكة جمال لبنان 2025


اليمن بين خلافات الداخل وضغوط الخارج
