نينا عامر – الناس نيوز ::
“إلا جدّتكَ كانت تُغني” لصاحبتها صالحة عبيد … حُبّ «عذيجة» للغناء والدفّ لم يقتصر عليها، بل أصبح إرثًا يتداوله أحفادها وأبناؤهم، حتى وصل أثره إلى جيرانهم، كلحنٍ قديم يرفض أن يموت.
في مجتمعٍ يرفض تقبّل “الطقّاقات”، تُخرج صالحة عبيد قلمها من حقيبتها بهدوء، كما لو أنها تُخرج آلة موسيقية نادرة، وتبدأ بسرد الحكاية دون توقف؛ حكاية أسرٍ كانت لهم في الفن حياة كاملة، تُشبه البحر في اتساعه وغموضه وتقلباته.
تطرح الكاتبة في هذا العمل المميز قضية شائكة تتعلق بالصراع بين الموروث والتجديد، بين ما وُرث عن الجدّات وما يحاول الجيل الجديد إعادة صياغته وفق مفاهيم معاصرة. حيث تواجه القارئ والمجتمع العربي بأسئلة يعجزان عن الإجابة عنها. ومن خلال شخوصها المعقّدة وأصواتهم المتعددة، تمكّنت ببراعة من رواية تفاصيل الحكاية وأحاسيس كل شخصية، واستطاعت أن تدخلنا إلى عُمق الرصاصة التي اعتقد «خالد» أنها ستُنهي عاره الذي لم يستطع التخلص منه، وكأنه تخلّص من سجنه الدائم.
في هذه الرواية، جعلتنا عبيد نسمع على طول النص قرعَ الطبول ونشاهد الرقصات المتنوعة، التي تخيّلتُ إحداها شبيهة برقصات الصوفيين، بأثوابهم البيضاء التي تدور حتى تأخذ شكل العالم، في حركة أبديّة بين الأرضِ والسماء.
تشترك كثيرات من مطربات الفرق الشعبية مع «زليخة» — التي ترفض استمرار والدتها في مهنتها — في غضبها وحزنها على أمها ونفسها وابنها «شاهين» من تلك النظرة الدونية، أو ذلك المفهوم الذي التصق بهم، رغم نثرهم الأفراح والمسرّات بين الناس.
أما «عذيجة»، التي أحيَت نصف أو جميع أعراس وحفلات أهل القرية، فكانت ترفض الغناء إن خُسف القمر أو أصبح الجو غائمًا؛ إذ كانت تعتقد أن في ذلك فأل شؤم قادرًا على إبطال أو تعكير الرباط المقدّس.
ومن خلال لقاء عابر في إحدى الحفلات بين «نورة» وطفلها «مروان» بـ «زليخة»، نتابع كيف يمكن أن تتحول الموسيقى إلى لعنة تصيب كل من يقترب من «عذيجة» و«شاهين»، ليمتد أثرها حتى تنطفئ حياة «نورة» حين يموت «مروان» في العشرينات من عمره.
أما فاتن، زوجته، فهي الشخصية التي شعرت بالحزن عليها أكثر من غيرها؛ فكيف لامرأة عادية أن تتكيف مع رسام منغمس في فلك المتاهة الفنية، يتبع مشاعره التي لا تهدأ، باحثًا دوماً عن المكان الذي تأخذه إليه روحه الحرة؟
رواية «إلا جدتك كانت تغني»، للكاتبة الإماراتية المبدعة صالحة عبيد، والصادرة حديثًا عن منشورات المتوسط في ميلانو، ليست رواية تقليدية؛ بل وكأن عبيد هذه المرة لا تكتب رواية فقط، بل إهداءً طويلًا لنساء قضين سنوات في رسم الفرح والسعادة على وجوه الكثيرين في أفراحهم.
إنه نص سردي كثيف اللغة والأحداث، تمكّنت من خلاله الكاتبة من الحفاظ على فضول القارئ، ليتابع بشغف معرفة من هي الراوية، وما الذي تفعله مع شاهين في ذلك البيت، ومن هو صاحب البيت. أسئلة كثيرة مشابهة تبدأ في مرافقة القارئ منذ اللحظة الأول.
إنها رواية تُذكّرنا بأن الفن، مهما تعرّض للتشويه أو الرفض، يظل قادراً على تشكيل حيوات الناس والبقاء في قلوبهم.
كتابة: نينا عامر، كاتبة ومصممة جرافيك يمنية. رئيسة تحرير مجلة إيلدا للأدب والإبداع النسوي.


الأكثر شعبية

خارطة طريق غاز ونفط سوريا… من الدمار إلى الإعمار؟


دمشق بين زيارتين …
