محمد برو – الناس نيوز :
عن سلسلة “ترجمان” في المركز العربي للأبحاث صدر “كتاب تنوير عشية الثورة”: النقاشات المصرية والسورية، للكاتبة اللبنانية د. إليزابيث سوزان كسّاب، والذي ترجمه عن الإنكليزية محمود محمد الحرثاني.
يناقش الكتاب الإرهاصات الفكرية والمناخات الثقافية التي مهدت لولادة أو تشكيل بدايات الثورة المستحيلة في مصر وسورية، وكانت تلك النقاشات عبارة عن ملامسات تأملية في البنية الاجتماعية والثقافية، التي عاشتها مصر وسورية خلال عقدين من الزمن، سبقا ولادة تلك الثورات على التوالي.
في مصر كان الفضاء الثقافي والسياسي، أوسع مما هو عليه في سوريا بمسافات واسعة، وكان نظام مبارك يسمح بحيز من الحراك النقابي والاجتماعي والثقافي، طالما هو منضبط بسقف يمكن التحكم فيه، بينما كان في سورية جدار مصمت من الصلب، وصمت مطبق في مملكة تتسم بالرعب المهيمن، الأمر الذي أنتج خطاباً ثقافياً محدوداً في ملامسته لقضايا الحرية والعدالة، وبقي يقاربهما في الإطار العام مقاربة خجولة، وهذا مفهوم في سورية، بفعل حجم العسف والقمع المعلن منذ عام 1980.
تناولت الكاتبة في الشطر المتعلق بأحوال مصر، مجموعةً ممن اعتبرتهم أعلام التنوير في تلك الفترة، وفي مقدمتهم نصر حامد أبو زيد، ومراد وهبة، ومنى أباظة، ومحمد عمارة، وجابر عصفور، وشريف يونس.
وفي الشطر السوري حيث كان الخطاب بشكلٍ عام، متمركزاً حول الاستبداد وتغول الدولة، لكنه كان خطاباً مبتسراً بفعل قبضة الأمن والرقابة المفرطة، حتى على كلام الناس في تجمعاتهم الأهلية. وكان من أعلام تلك المرحلة البائسة، صادق جلال العظم، وبرهان غليون، وطيب تيزيني، وممدوح عدوان، وسعد الله ونوس، وعبد الرزاق عيد، وفيصل دراج، وأنطوان مقدسي. بيد أن الفشل الذي حاق بالتيار التنويري العلماني كما تسميه، في محاولته للدفاع عن قيم العلمانية والحرية، إنما يرجع بالدرجة الأولى إلى تشككه في قدرة تلك القيم على التناغم مع بنية المجتمع السوري، الذي يتَّسم بالمحافظة الدينية بشكل عام.
وتفصل الكاتبة في خطاب التنوير السوري بين لحظتين: اللحظة السيزيفية، واللحظة البروموثية، ففي اللحظة الأولى التي بطش بها نظام الأسد بالبنية الاجتماعية السورية، ففتتها وأتى على ما تبقى من تشكيلاتٍ نقابيةٍ أو بقايا سياسية، وأحال البيئة الثقافية إلى جوقة مطبلين ومتمجدين، باستثناء قلة قليلة لم تستطع أن تطلق صوتها كما ينبغي، وكان هذا في مطلع الثمانينات، وفي هذا الشطر يركز الكتاب على رائدين من رواد التنوير السيزيفي السوري، هما الكاتب المسرحي سعد الله ونّوس، وفيصل دراج، أما اللحظة البروموثية، التي حانت إثر موت حافظ الأسد، واستيلاء ابنه على مقاليد السلطة بشكل يدعو للسخرية، وكان من نتاج تلك المرحلة البدء في اتخاذ تدابير تتسم ببعض الليبرالية الاقتصادية، لكنها محكومة ومنضبطة بشكلٍ صارمٍ، كيلا تفضي إلى ليبرالية سياسية، والحقيقة أن هذه المحاولة كانت محض هباء، إذ لم ينتفع من هذه الفسحة إلّا أعوان النظام ووكلاؤه، فتم نقل بعض التنفد والانتفاع الاقتصادي من الحيز العام نظرياً، إلى حيز أهل السلطة حصراً، الأمر الذي شكَّل سبيلاً مباشراً ومشرعاً لنهب المال العام، ولم تكن تلك الحركة تهدف لتخفيف الاحتقان، أو حركة لاسترضاء الناس وإن في حدودها الدنيا، لأن المتتبع لحال السلطة في جميع أطوارها، بدءاً من عام 1970 حتى يومنا هذا، يجد أن نظام الأسد غير مؤمن بتقديم خطوةً واحدةً فيها تلبية لمطالب السوريين، مهما قلَّ شأنها، وأنه يؤمن فقط بالإصرار على أعلى درجات الضغط، والضبط بقبضته الأمنية، ويخشى من أدنى تراجع يبديه أن يكون له أثر تساقط أحجار الدومينو.
وفي ملامستها لتلك اللحظة البروموثيوية، والتي كانت ذروتها قبل الثورة في ربيع دمشق، تتساءل هل كانت تلك الحراكات الثقافية التي اتخذت خطاباً سياسياً، يدعو لإلغاء مواد من الدستور، ويطالب بتخفيف القبضة الأمنية والفصل بين السلطات، وإلغاء سيادة الحزب الواحد، وإخراج البلاد من سلطة قانون الطوارئ والأحكام العرفية، هل كانت حركات ساذجة بريئة من الخبرة السياسية، الأمر الذي أفضى بالضرورة إلى فشلها فشلاً ذريعاً، فكلفها أثماناً باهظةً، وزجت بالعشرات منهم في المعتقلات، لينتهي ذلك الربيع المأمول قبل أن يزهر، بغض النظر عن هذه التساؤلات، فإنَّ الوقائع التي بدأت في مارس/آذار 2011 أكدت، أنَّ تلك الأفكار التنويرية الأولى والمحاولات التي بدأت بموت حافظ الأسد، لم تكن تحليقاً في الخيال، إنما كانت منسجمةً مع تطلعات السوريين عامةً، وتعبيراً عن جملة معاناتهم ومتطلباتهم المشروعة.
تختم كساب كتابها بأسطر كتبها الباحث الفلسطيني الأمريكي محمد باميه، “حين لا يتغلب المرء على قصوره الذاتي فحسب، وإنما قبل ذلك يتغلب على القصور الذي فرضته الدولة، فإنه يثبت أن التغلب على عدم النضج الذي تفرضه الذات على نفسها قد بدأ بالفعل، وعلى نحو غير ملحوظ أو مسموع وقبل أن تحدث أي ثورة بوقت طويل، انفجر التوق الممتد عقوداً طويلة إلى الحرية في شوارع القاهرة ودمشق، وغيرها من المدن الكثيرة في العالم العربي، في تظاهرات جماهيرية مذهلة، وسحقت الأنظمة هذه التظاهرات، فحول القمع مصر إلى مملكة صمت أخرى، وحول العنف الجامح سورية إلى حقول قتل ومقابر جماعية وخرائب، بعد ذلك كله، أما زال بالإمكان تكرار ما أكده ونوس “إننا محكومون بالأمل”، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ، إن القفزة الايمانية التي دعا إليها في حينه، أصبحت ممارستها أصعب كثيراً اليوم، وبصيص الأمل الذي ناضل من أجل الحفاظ عليه أصبح أكثر ضآلة من ذي قبل، لقد أصبح النضال من أجل التنوير نضالاً شاقاً أكثر من أي وقت مضى”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ.
د. اليزابيث سوزان. درست الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت، وفي جامعة فريبور في سويسرا. شغلت منصب أستاذة زائرة في عدد من الجامعات الأميركية والألمانية، منها ييل، وكولومبيا، وبرون، وبون. تعمل الآن أستاذة للفلسفة والفكر العربيّ الحديث والمعاصر في معهد الدوحة للدراسات العليا. تتمحور اهتماماتها البحثية حول الفلسفة الثقافية ببعدَيها الغربي وما بعد الكولونيالي، مع اهتمام خاص بالفكر العربي الحديث والفلسفة العربية المعاصرة.