[jnews_post_author ]
من بين مسرات نهاية الأسبوع مسير السبت الصباحي الذي يستمر قرابة ساعة على شاطئ البحر في القرية الخضراء(yeşilköy) في إسطنبول. وهو مشوار يحرك مشاعر نهايات الصيف وبدايات الخريف، حيث تبدأ الأشجار تتلون تدريجيا بالأصفر الباهت. وهذه الفترة من الخريف تبعث انفعالات مختلفة لدى الطبيعة والبشر على حدٍ سواء، وأكثر ما نلحظ ذلك لدى الحيوانات والطيور وهي كثيرة هنا. ومن تفاصيل المشهد القوية في هذا المكان جموع القطط التي تستغرق في وصلات من العشق الوهمي أو المبكر والسابق لأوانه، والطيور التي لا يبدو عليها أنها مهاجرة أو عائدة من سفر الفصول، بل هي في حالة اضطراب بين نشوة آخر الدفء الصيفي وبدايات البرد الخريفي الذي يتسلل تدريجيا في تردد لا يعبر عن خوف، بل عن اختلاط الأوقات.
وكأن الناس يودعون الصيف. نراهم يتوافدون بكثرة إلى الحدائق والمقاهي المنتشرة قرب الساحل في هذا الطقس الرائع الذي يتقاطع مع الربيع في اعتدال المزاج والهواء وحرارة الشمس، على نحو يبعث النشوة حتى وإن تراجع الضوء الذي يحرك الحواس والرغبات في الربيع، ولكن هؤلاء البشر الذين يمضون الأيام الأخيرة قبل أن تبدأ مواسم البرد، لا يبدون على إيقاع واحد كما يحصل في الصيف أو الشتاء أو الربيع عادة. ومن السهل أن نلاحظ أنهم في مزاج انتقالي سريع، يتأرجحون بين فصل مضى وآخر لم يصل بعد، ولكن ملابسهم وطعامهم توحي بأنهم لا يريدون مغادرة الفصل الماضي أو أنهم لم يشبعوا منه، ولذلك يحملون معهم البطيخ الأحمر والتين والعنب، وكل ما طاب من فواكه الصيف الحار والقاسي، صيف الشرق الذي يشعل الهشيم في كل شيء، ويطلق الرغبات من قلب الحجر.
كورونا ليس هنا، والدليل أن قلة من رواد الشاطئ والمقاهي في هذا الوقت الانتقالي يضعون الكمامة، ولا أحد يحافظ على طقوس التباعد الاجتماعي، ويختلط البشر مع بعضهم حسب نظام عادات لم يؤثر كورونا في كسره أو تغييره، وعلى اعتبار أن الشرق ابن الألفة والتقارب فإن العائلات هنا تلتف على بعضها بصورة فطرية وعفوية وتعيش حياتها في طقس لقاء دائم ومفتوح ولا تعرف البروتوكولات التي اخترعها التقدم الغربي عن المسافة مع الآخر واحترام الذاتية. وحين تختلط هذه العائلات وتتداخل يصعب تمييزها عن بعضها البعض، بحيث تبدو هذه الطقوس ضرورية لكل هؤلاء البشر كالتنفس. هؤلاء الناس يأتون إلى هذه المقاهي والمطاعم والحدائق الملاصقة لبحر مرمرة الصغير كي لا يختنقوا خلف الجدران. وكثيرا ما تأملت عائلات بأكملها من صغارها حتى شيوخها وهي تحث الخطى قادمة من أحياء بعيدة إلى المنتزهات الشاطئية، وهناك عائلات تمارس ترف الذهاب أبعد قليلا، حين تمتلك وسيلة نقل خاصة، نحو الغابات التي تحيط بمدينة إسطنبول، وينتشر عشرات الآلاف وسط غابات شاسعة طبيعية، ومن بعيد يرتفع دخان الشواء نحو السماء، وتعبق رائحة المشاوي في الفضاء، حتى أن مشهد هؤلاء البشر في الغابات يبدو وكأنهم من زمن آخر، طقس لا يمكن أن نشاهده إلا في الشرق الساحر، وهو احتفال بالطعام والطبيعة والوقت يتقنه ويمارسه الشرقيون على نحو فريد، وكلما اقترب المرء من هذه العوالم اكتشف أن هذه اللقاءات أحد مصادر سعادة هؤلاء البشر، فهم على علاقة خاصة مع الطبيعة والفضاء، وللاحتفال لديهم مكانة خاصة.
هنا في هذه الطبيعة التي لا تزال مشدودة إلى حالتها الأولى، حيث صوت الموج والضباب الخفيف والطير بلا عدد، تعود لي صور من أماكن أخرى مثل حديقة royal botanic garden في لندن التي تبقى على مدار العام مكانا للنزهة والفرجة والتأمل، بما توفره من فضاء نباتي فريد بفضل التنوع الموجود فيها، وهي تشكل صورة تختصر مزاج مدينة لندن الأخضر وفضاءها وبناءها الهندسي المفتوح، بوصفها إحدى المدن الأكثر نباتية وتسامحا وديمقراطية في العالم. وهناك يمكن للإنسان أن يتجول في جغرافيات نباتية مختلفة من كل جهات الكون، ويقع على أصناف من الأشجار والزهور والنباتات التي حملها الرحالة الإنكليز من كل أصقاع الأرض، وعملوا على توفير تربة صالحة لها كي تنمو وتتجذر وتتعايش وتشكل عائلة واحدة في هذه الأرض العظيمة، وهي في صورة ما تعكس شارع المدينة الكوسموبوليتية التي تتعايش فيها شعوب كثيرة وثقافات وأديان متنوعة.
———————————————————————–
بشير البكر