ثائر الناشف – الناس نيوز :
* كاتب وروائي سوري مقيم في النمسا .
ليس ثمة فروقات كبرى يمكن رصدها بين الحالتين الثقافية والسياسية اللتين برزتا بوضوح في حياة المجتمعات الغربية المعاصرة، ولعبتا دورًا بارزًا في تشكّل التجمعات المدنية، فالتوازي بينهما كان قائمًا من مرحلة لأخرى، لأن الوعي هو الشرط الأساسي والوحيد لتحقيق التوازن المطلوب واستتبابه بين تلك الحالتين، كما أنه بمثابة حجر الزاوية الذي شيدت عليه الصروح الثقافية كلها، فما من وثبة سياسية واعية خلال القرون الثلاثة الماضية إلا وصاحبتها نهضة ثقافية ما لبثت أن عززت حضورها القوي بتكريس مفاهيم الحرية والجمال في الأوساط الشعبية؛ حتى نتج عنها ازدهار أدبي وفني بديع تجلى بأبهى صوره التي لا تفتأ تكوّن صورة الحضارة الغربية عينها، فيما كانت ذروة ذلك الازدهار في مطلع القرن العشرين، ولا سيما مع بدء سريان موجة المد القومي التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتبلور مفهوم الدولة ذات الهوية الوطنية الشاملة.
بينما ما تزال ذهنية التحريم، وعقدة الذنب، وتبكيت الضمير، وإحاطة القضايا الفرعية والرئيسة بقداسة مفرطة تلقي بظلالها السوداوية على مستقبل الثقافة في العالم العربي والشرق الأوسط عموماً ، بحيث أضحت تلك المفاهيم راسخة في وجدان الكثير من المثقفين والكتاب الشرق أوسطيين، رغم ظنونهم الخاطئة والواهمة بأن ما ينتجونه من مؤلفات شعرية ونثرية وقصصية وروائية تخلو تمامًا من أي كبت اجتماعي أو سطوة سياسية، غير أنّ هذا الإحساس له ما يناقضه في الواقع العملي الملموس، لأنّ ظاهرة الخطوط الحمراء -التي تفرض نفسها على خيال الكاتب- لا شك أنها تجرده من أي إحساسات أو تأملات إبداعية بما يمكن أن يتحسسه ويتذوقه من الأدب عينه، باعتبار أن فضاءه الرحب يتسع للآفاق الإبداعية التي لا تحدها أي حدود، لكن النكوص اللاإرادي تجاه بعض القضايا الاجتماعية والسياسية بات لا يخفي نفسه أمامنا، بل أصبح بارزًا بجلاء من خلال نوعية الإنتاج الفكري، وغزارة المحتوى الأدبي الذي راحت تذخر به الساحة العربية مقارنة بما أفرزته الثقافات الأخرى على مدار القرنين الماضيين.
فالحروب والصراعات التي شهدتها بلدان الغرب في بدايات القرن الماضي كان لهما الأثر الأكبر في تغيير الأنساق الفكرية، وإحداث التغيير الاجتماعي بطريقة جذرية شاملة من خلال تبني أفكار التصالح مع الذات والآخرين؛ فضلًا عن المراجعات التاريخية التي تضمنت إعادة النظر في تعريف السلطتين الدينية والزمنية ضمن السياقات القانونية والدستورية، وهو ما أطلق سراح العقول من سجونها الاجتماعية، فانعكس ذلك كله على الواقع الثقافي بطريقة تلقائية، فانتعشت الثقافة انتعاشًا غير مسبوق، رغم تأثرها المسبق بالأيديولوجيات، واقتصاديات السوق، لكنها نجحت على الأقل في إعادة الاعتبار للحريات العامة، وإعادة وضع تعريفات جديدة لفكرة الحضارة.
فيما لم تسهم الصراعات الأهلية التي شهدها الشرق الأوسط على مدار نصف قرن في إحداث أي مراجعات ذهنية أو مصالحات وجدانية كان يمكن لو حدثت فعلًا أن تترك أثرًا عميقًا من شأنه أن يؤسس لحالة ثقافية رائدة أساسها الوعي، وأدواتها الإبداع، وبجهود أقل بكثير من تلك التي بذلتها المجتمعات الغربية في سبيل الارتقاء بثقافتها لكي تكون ضمانتها الأبدية في كبح أي انحرافات أيديولوجية، ولذا فإنه لم يكن مستغربًا ديمومة التقهقر في المشهد الثقافي العربي، رغم حالة الإنكار المستمرة من طرف شرائح عديدة من المثقفين الذين لا هم لهم سوى أن يحافظوا على مواقعهم ومكانتهم الرفيعة على حساب اضمحلال دورهم الأدبي والتنويري في التصدي للذهنية الاجتماعية البالية، وتعرية الأنماط السلبية، ودون أن يتيحوا لأنفسهم فرصة الاستفادة من التجارب الثقافية المماثلة؛ إلا في الإطار التقليدي الضيق الذي بدأ فعليا مع مطلع القرن العشرين من قبل مَنْ كانوا يسمُّون حينها برجالات النهضة العربية الذين تتلمذ معظمهم في الجامعات الأوروبية، وما لبثوا أن عادوا إلى بلدانهم كمثقفين مُقلّدين واتباعيين، فظهرت الثقافة الغربية عليهم مظهر الأزياء الحديثة، بينما ظلوا يحتفظون بأفكارهم التي هي في الواقع أفكار مجتمعاتهم وعائلاتهم دون أن يكون باستطاعتهم التخلي عنها لضرورات تخص ذواتهم الناقصة، وفي الوقت عينه لإثبات ولاءاتهم الاجتماعية وحتى السياسية، ولا سيما بعد أن أصبحت الثقافة رافدًا من روافد السلطة في العالم العربي والشرق الأوسط، بل رديفًا لها، بدلًا من أن تكون ندًا ورقيبًا عليها، فاتسعت الهوة بين المثقف والمجتمع، وأصبح التنميط الفكري، وتشويه الأجناس الأدبية، وحصرها في قوالب جامدة، وإطلاق الأحكام المسبقة، وتبني أيديولوجية السلطة، واستهلاك خطابها ديدن المثقفين؛ الذين حولوا الثقافة في زمن العولمة من محتوى جمعي إلى محتوى مخصص فيما يشبه الأندية، والمنتديات المغلقة ذات الحيزات الضيقة والمحدودة إن في هامش المساحة العامة أو حتى في هوامش التفكير من قبيل الامتناع عن تقبّل أفكار وإبداع المُجددين من الأجيال الصاعدة، لأن الدخول إلى تلك الأندية ذات الصبغة الاحتكارية بات يحتاج إلى إذن مسبق من الجاثمين على جسد الثقافة والمتحكمين فيها.