د . غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
لا يزال برنامج الاحتفالات المخلدة للذكرى الستين لاستقلال الجزائر مستمراً، ولكن المدقق فيه سيحس احتشام التظاهرات وقلتها مقارنة بالاحتفالات التي خلدت لخمسينيتها سنة 2012. قد يعود الأمر لعدة أسباب أهمها ضعف الميزانية المعتمدة لقطاع الثقافة تحديداً مقارنة بما كان عليه الأمر منذ عشر سنوات، بسبب تراجع المداخيل النفطية في السنوات الأخيرة، إضافة إلى سرعة التحضيرات التي نجمت عما عرفه المشهد العام للبلاد لشهور انطلاقا من سنة 2019، سنة انطلاق الحركة الاحتجاجية الشعبية التي سميت “حراكاً”، ضاعفتها أزمة الوباء العالمي.
وعلى الرغم من صدور بعض الكتب هنا وهناك بهذه المناسبة، إلا أن المتابع سيقف مندهشاً أمام ما أنجز حول “الستينية” من الطرف الفرنسي، حول ما يسمى هناك بـ”حرب الجزائر” تحديداً.
كانت كبرى الجرائد والمجلات الفرنسية قد جهزت وأصدرت ملفات موثقة بالصور الحصرية عن تلك الفترة منذ مطلع سنة 2022، كما سينتبه المتابع لحركة النشر في فرنسا إلى كثرة الإصدارات التي تناولت الموضوع ذاته، يقع جلها في فئة السير، تدور كلها حول قصص شخصية، وشعبية لمختلف الفئات من يهود وأوروبيين، خصوصاً، اضطروا لمغادرة البلاد بعد استفتاء تقرير المصير شهر يوليو/تموز 1962، قبله أو بعده بقليل.
هكذا نجد أن المؤرخ النجم جاك عطالي قد أنجز أكثر من عمل حول يهود الجزائر، وكذلك المؤرخ الجاد بنجامين ستورا (وهو ممثل الطرف الفرنسي في الحوار حول ملف الذاكرة بين البلدين) الذي أفرد الكثير من الأعمال خلال هذه السنة حول الموضوع ذاته، ولكن يبقى خطاب الرجلين هادئاً ومتوازناً في سرد تاريخ البلاد التي اضطرا لمغادرتها صغيرين برفقة عائلتيهما، مقارنة بكتب السير الأخرى التي صارت تتبنى خطاباً يمينياً متطرفاً يعيد طرح التساؤل حول تاريخ الجزائر واستقلالها، وتكرسها أحيانا أطراف رسمية عبر هيئات رسمية ووسائل إعلام ثقيلة.
من بين الكتب الكثيرة التي صدرت بمناسبة ستينية استقلال الجزائر بفرنسا كتاب سيرة يحمل عنوان “إنه المكتوب-جوزيف… وقائع ما قبل المنفى” كتبه باحث الاقتصاد ومدير سابق لإحدى أهم المدارس العليا في فرنسا جيرارد جيبيلاتو. لم يحقق الكتاب شعبية تذكر، ولا اهتماماً إعلامياً ونقدياً مميزاً، لكن موضوعه يبدو مثيراً على أكثر من صعيد، خصوصاً بالنسبة لكتابة ذاكرة، وتاريخ بلد، يبتعد كل يوم أكثر ماضيه، ليس بفعل الزمن فحسب ولكن لهلامية السرديات، وسيطرة الرواية الوطنية الجزائرية التي لا تترك هامشاً كبيراً لكتابة جدية من الطرف الجزائري لما حدث في تلك الفترة.
يخوض الكاتب في قصة عائلته الإيطالية المهاجرة نحو الضفة الجنوبية التي وجدت في المدينة التي تحمل اسم “فيليب-فيل” وقت الاستعمار، ثم “سكيكدة” زمن الاستقلال، إلدورادو يقيها شر الفاقة، حكايات أجداده الأوائل الذين هاجروا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نحو المستعمرة الفرنسية، واشتغلوا كصيادين في ميناء المدينة، ثم قصص نسلهم حتى ميلاده هو.
يصف بكثير من الحنين ظروف عيشه وعائلته، العطل التي كان يقضيها عبر شواطئ المدينة، إيقاع يومياتهم في “فيليب فيل” التي سيقول إنها لم يكن لها وجود قبل فرنسا عدا “الميناء الذين بناه الرومان ولم يستغله الأهالي (السكان الأصليون)”.
قبل أن ينتقل إلى سرد تاريخ مضاد عن الثورة التي خاضها هؤلاء السكان الأصليون ضد المستعمر، محاولاً الربط بين ما حدث في تلك الفترة وما عاشته البلاد وقت الحرب الأهلية، ثم ظاهرة الإرهاب الإسلاموي التي عرفها العالم خلال العشرية الأولى وجزء من الثانية للقرن الحادي والعشرين.
سيحدث قارئه عن وضعية الأهالي في تلك الفترة وكيف أنهم حظوا بكثير من المزايا، كدراسة اللغة العربية التي ستفرض حتى على أبناء الأوروبيين في المدارس الفرنسية، كيف أن المحتشدات كانت أشبه بمدن أفضل آلاف المرات من القرى التي هدمت أمام أعين ساكنيها، فبفضلها حظوا بالتعليم، وإن شابهت السجون، بل إن ما اقترفته منظمة الجيش السري الفرنسية، الإرهابية، لا يعد شيئاً مقارنة بما قام به مناضلو “الأفلان” تجاه أوروبيي الجزائر. سيروي خبث العربي، بائع الفواكه على ناصية شارع بيتهم، الذي سيكتشف
والده بعد استقلال البلاد أنه أحد العناصر الفاعلة في “جبهة التحرير الوطنية”، على الرغم من أن عمه كان عضوا في منظمة الجيش السري، وتلون جلد خادمته فضيلة التي كانوا يدعونها ككل نساء الأهالي “فاطمة”، التي كانت تردد له بأنها لا تحب أولاء المتمردين، قبل أن تنتفض بوجه زوجة أبيه لتخبرها أنها “يوما ما، حين تستقل الجزائر ستصبح أغنى منها، بل إنها ستوظفها”، بالإضافة لكثير من القصص التي سيقف القارئ مذهولا أمام هشاشة حججها، وقدرة كاتبها على الربط بين شذرات متناقضة من أجل دعم سردية ستكذبها القصص الشعبية للطرف الجزائري.
يصعب أحيانا على القارئ، العربي خصوصاً، الإلمام بأهمية تاريخ الجزائر في اليومي، ولكن ملف الذاكرة يعد من بين أهم الأسلحة التي يستخدمها الطرفان الجزائري والفرنسي، مع كل فرصة ممكنة، على جميع الأصعدة الرسمية والشعبية، الداخلية والخارجية، بل حتى لكسب الانتخابات، كما فعل ماكرون مع ملف “الحركى” في حملته الانتخابية الأخيرة، لكن الاختلاف الجوهري اليوم يكمن في فعل التدوين النشط جداً على الضفة الشمالية للمتوسط، وإن زيفا، مقارنة بضعفه على الضفة الجنوبية، والذي سيزيد من حظوظ تكريس السردية الاستعمارية التي خسرت الحرب المسلحة قبل ستين سنة، ولكنها تحاول بما أوتيت أن تكسب حرب الذاكرة.
غادة بوشحيط/ باحثة ومترجمة من الجزائر.