ريما بالي – الناس نيوز ::
في الخامس عشر من الشهر الحالي، أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونيسكو” القدود الحلبية السورية على قائمة التراث الإنساني الثقافي العالمي، أو لائحة التراث اللامادي. (ويقصد بالتراث اللامادي، تراكم العادات والتصرفات والممارسات التي يمارسها شعب ما على مدى أجيال متعددة).
كل حلبي، يشعر بالفخر حتماً حين يعتلي جزء مهم من تراثه المنصات العالمية، ويسهم برفد نهر الثقافة الإنسانية المتدفق بسواقٍ حلبية المياه، حلبية النغم والكلمة والإحساس. كأنه يقول للعالم: “هيه أيها الكوكب.. نحن هنا.. وكل هذا الجمال.. من عندنا”.
نحن نحب قدودنا لأنها الخلفية الحاضرة وبقوة في كل مشاهد ذاكرتنا، أعيادنا، احتفالاتنا، مناسباتنا العائلية، وحتى نزهاتها إلى البساتين القريبة، حيث نسمعها تصدح في خيالنا مع صورة الجد الذي يلقي الزهر (النرد) على طاولة الخشب بعد أن ينفخ عليه أثناء مباراة حامية (جاني حبيبي أبو الحلقة)، والأب الذي يشرف على الشواء (والكاتب يكتب بالورقة)، والجدة التي ترش الكمون والفليفلة على صحون الحمص (أنا وحبيبي بين الآس)، والأم التي تفرم البقدونس والبصل لإعداد سلطة البيواز بالسمّاق (والكحل حارس لعيونو)، ومع نقرة الكؤوس التي تفوح برائحة اليانسون (مديت يدي لأخد الكاس…وسكرت أنا من عيونو).
نحب تراثنا، لأنه عمرنا وذكرياتنا والفضاء الذي تفتحت أعيننا وأفئدتنا في أثيره، هو ما خُزّن في عقولنا وقلوبنا وغذّى وجداننا وفكرنا، ورسّخ القاعدة الأساسية لشخصياتنا وما نحن عليه. تراثنا ببساطة، هو نحن، ونحن نحبه محبتنا لذواتنا، للنسخة الأصلية منها، النقية والبكر، قبل أن تعكرها تكاليف الحياة.
والقدود ولو أنها الجانب الأشهر من تراثنا اللامادي، إلا أنها ليست وحدها من يشكل مكوناته الثرية، إذ يشمل هذا التراث الكثير من الجوانب الأخرى، كالعادات اليومية والأمثال الشعبية والطبخ.
وبما أننا نعيش الآن هذه الأيام، دعونا نتذكر ذلك الجانب (الشهي) من التراث الذي يهتم بإعداد الأطباق الخاصة بكل مناسبة. ففي رأس السنة والليلة الأخيرة من العام (على سبيل المثال لا الحصر)، يطبخ الحلبيون “الخبيصة” وهي حلوى تشبه المهلبية يدخل الدبس في مكوناتها بحيث يصبح لونها بنياً غامقاً، تزيّن بالجوز والشمرا، وينصح بأكلها قبل أن تدخل السنة الجديدة كرمز لانتصارنا و(افتراسنا) لسواد وأحزان ومشاكل العام القديم. وإلى جانب الخبيصة، يُحضّر الحلبيون “المبطنة”، وهي أيضاً نوع من المهلبية يطبخ قسم منها مع عصير البرتقال ويصب في القاع، ثم يغطى بطبقة من مهلبية الحليب ناصع البياض وتزين بالفستق الحلبي الأخضر، ويستحسن الناس تناولها في الساعة الأولى من السنة الجديدة متمنين لأنفسهم (سنة حلوة وبيضا). أما على مائدة الغداء، وفي كل البيوت تقريباً على اختلاف طوائفها، فتُقدّم “الكبة لبنية”، وهي أحد أنواع الكبة الحلبية التسعين، تطبخ مع اللبن الرائب الأبيض جالب الحظ السعيد، ليفتتح الحلبيون بها عاماً لذيذاً مشرقاً دافئاً، وحلبياً بامتياز.
أما عالم الأمثال الشعبية، فهو برأيي الجانب الأكثر ظرفاً وطرافة من التراث، فمن منا لا يتمتم بمثل شعبي قديم سمعه من جدته، لعدة مرات في اليوم عند تعرضه لمواقف مختلفة؟ أو حتى أثناء حوار له مع شخص آخر، أمثال على شاكلة:
“من طول عمرك يا زبيبة!.. ولا تقول فول ليصير بالمكيول.. ولا تموت ليجيك الموت.. عد شموس اقبض فلوس.. كل مين بهمو وجحا قتل أمو.. البني آدم نصو خلقة ونصو خرقة.. متل الجردون الأعمى.. الي بدو يسكر ما بيعد اقداح.. الكلب الي بدك تجرو عالصيد، بيس منو ومن صيدو….الخ”.
كثير من الأمثال، نختمها دائماَ بـ: أهل أول ما ضل شي ما قالوه. وأهل أول هؤلاء لم يكونوا شخصاً أو شخصين، بل هم أجيال متلاحقة توارثت المقولات والنصائح. وذلك الشيء الذي قالوه، لم يكن مجرد ترهات، بل هو على طرافته وأحياناً فظاظته، خلاصة تراكم تجارب وفكر وفلسفة بالمفهوم البسيط الشعبي البدائي. ملخص خبرات عاشها الحلبي عبر تاريخه الطويل الذي شهد حروباً وانتصارات، استعماراً وثورات، زلازل وفيضانات، ازدهاراً وجفافاً، أعراساً ومجاعات.. سنواتِ خير وسنواتٍ عجاف.
وأتساءل، ماذا عن مستقبل هذا التراث الثري الجميل الذي تسلمناه من أجدادنا؟ هل أن المادة التي سيتركها الحلبيون المعاصرون لأحفادهم وأحفاد أحفادهم عن هذه الفترة القاتمة من عمر المدينة ستغنيه وتزيده جمالاً أم..؟ هل سيبدع الحلبي جزءاً ثانياً من فاصل “اسقِ العطاش” تحت عنوان “أنر القابعين في الظلام”؟ وهل ستتناقل الأجيال الجديدة أمثالاً شعبية كـ: “الي بتصله رسالة الغاز، بيطبخ شوربة” و”خلي لحافك فوق اجريك”.
آه يا حلب، يا من:”فتنوا عليكِ عزالك.. لما رأوكِ بجمالك”.. ماذا أتمنى في هذه المواسم الدافئة إلا أن أراكِ؟ وأراكِ بخير! أنتِ حياتي وروح قلبي.. بحبك لكن ايه ذنبي؟.
كل عام وأنتِ وأهلك وتراثك ومن يحبك بألف خير.. وروح يا عازول وابعد عنا.