د . غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
“سنلقي كلمة الساعة من قواميسنا، وبعد الثورة لن يكون هناك أعياد ميلاد لأنا ولدنا من جديد وسنبقى جميعاً في عصر لا يتقدم ولا يتغير في نظر الله العلي القدير”….”عندئذ تبدأ كل ساعات المدينة تدق بلا توقف معلنة الساعة الثانية عشرة فالرابعة والعشرون من ثم الواحدة وبعد آلاف مشيرة إلى نهاية الزمن… وبداية اللازمن عند الإمام”، ليست كلمات عراف ولا مطلع على الغيب، بل كلمات سلمان رشدي التي لم يكن هو بحد ذاته واثقاً بمضمونها حتى أيام قليلة.
وردت هذه الجمل في روايته الأشهر على الإطلاق “آيات شيطانية” وهو بصدد وصف الرجل الذي سيقضي على النظام الإمبراطوري في إيران ليقيم مكانه حكماً دينياً، في تجربة فريدة وقتها، والذي سيصدر فتوى بإهدار دم كاتب هذه الجمل، بعد صدور الرواية باعتبارها تخوض في المقدس. وهي اللحظة التي ستصبح أهم مفصل في حياة الرجل سليل العائلة البرجوازية الهندية، الذي سيضطر لترك عائلته بعمر الثلاثة عشر سنة ليستقر ببريطانيا، ليجد عزاءه في الكتب، أو على الأقل تلك التفاصيل التي سيقصها في سيرته الذاتية التي تحمل عنوان “جوزيف أنطون”، وهو اللقب الذي سيتخذه الرجل الذي سيعيش متخفياً وتحت حراسة شديدة من أهم الأوساط الأمنية البريطانية والأمريكية، نسبة لكاتبين أحبهما كثيراً هما الأمريكي جوزيف كونراد والروسي أنطون تشيخوف، متيمناً أيضاً ربما بوالده المحامي الذي اختار لقب “رشدي” نسبة للفيلسوف ابن رشد، هو الذي تأثر به كثيراً وأنشأ أبناءه على حرية التفكير دون قيود، والخوض في مسائل الدين بالنقد.
سيحكي “جوزيف أنطون” أيضاً لحظات الضعف والشك التي عاشها، وكيف كان يعيش متنقلاً متخفياً، ويضطر لبناء مخططات كاملة ليقابل ابنه “زفار” مثلا، كما سيحكي حيثيات نص الاعتذار الذي طلبت منه السلطات العليا تلاوته، من خلال حرسه، هو الذي أصبحت تكاليف تأمين حراسته ثقيلة، وغيرها من القصص حول الكتاب الذي لن يكون أفضل ما سينجزه سلمان رشدي.
فـ”آيات شيطانية” رواية رمزية، تخوض في تاريخ ظهور الإسلام كما بعض الممارسات الهندوسية، ترتحل بالقارئ في عدة حقب. تنطلق بمشهد سقوط شخصين من الطائرة، تحكي قصص التناسخ والحياة والموت، شيء بين قصص “الألف ليلة وليلة” وحكايات النبوة. يقول كاتبها في سيرته الذاتية أن “ال” التعريف التي أضيفت قسراً إلى العنوان هي ما تسبب في كل الهجوم حولها، ولكن يبدو أن ما تسبب في هياج “المرشد الأعلى”، هو خوض الكاتب الهندي في قصة صعود الإمام، هو، والثورة الإيرانية، كما في حياة الرجل ذي العمة والأثواب الفضفاضة بين إنجلترا وإيران، حيث سيوقف عجلة الزمن بمجرد مجيئه، كما أوقفت الرسالة المحمدية عجلة النبوة.
كذلك فعلت الفتوى في حياة “رشدي” وحياة قرائه، أو على الأقل تلك رمزية ما وقع له من أسبوع، وهو الأمر الذي لم يتنبأ به وهو يسرد ما عايشه هو وعائلته خلال السنوات التي تلت صدور عمله الأدبي الأشهر.
بدت الثلاث وثلاثون سنة التي فرقت صدور الفتوى عن محاولة اغتياله أشبه بثانية من الزمن، وقد ارتكبها شاب بعمر الزهور، ولد أكثر من عشر سنوات بعد اصدار “الإمام” لفتواه، من المؤكد أنه لم يقرأ رواية “رشدي”، ولكنه أصر على التواجد داخل جامعة حتى يقوم بـ”غزوته” بسكين.
أياماً بعد الحادث، يبدو صاحب “أطفال منتصف الليل” خارج دائرة الخطر، لحسن حظه، وحظنا، ولكن رمزية ما وقع له تبدو معبرة أكثر من أي وقت مضى. سلمان رشدي ليس أول كاتب من العالم الإسلامي يتعرض للطعن بعد فتوى، فقد كاد نجيب محفوظ يلقى حتفه بحادث مشابه تسعينات القرن الماضي، عشريات بعد صدور رواية “أولاد حارتنا” التي اعتبرتها بعض الدوائر مسيئة للدين، كما فقد الروائي والمترجم الجزائري القدرة على الكلام تقريباً بعد تعرضه للطعن على يد إرهابي خلال عشرية التسعينيات التي عرفت حمى ضد كل صاحب قلم وفكر، وراح ضحية همجيتها العشرات من الأقلام الجزائرية المميزة. إلا أن هذه الحوادث المريعة قد حدثت في مناخ سيطر عليه الخطاب الديني، شجعه الدعم المالي والسياسي من بعض مراكز القوة ولأهداف مرحلية، بالإضافة لكل ذلك فالفتاوى بإهدار دم “محفوظ” و”بقطاش” قد سبقت لإصدارها دوائر لنقل سنية، عكس ما حدث مع سلمان رشدي، والشروخ بين المذهبين وجحافل المؤمنين بهما جلية.
سيحس المراقب لتطور الحركات الدينية في العالم الإسلامي تراجعاً وانحساراً للخطاب الديني على الأقل في وسائل الإعلام الكبرى خلال السنوات الأخيرة، والتي كانت لوقت قريب عرابة له، دعمت لأزيد من عشرية بروز وسيطرة هذا النوع من الخطابات الذي يستميت محاولاً أن يبدو في حلة الاعتدال، والقابل للتكيف مع أدوات الحداثة، رغم جهره بمقت الفنون، وكل ما من شأنه ضمان سمو الروح البشرية، قبل أن تعري موجة “الربيع العربي” نوايا واستراتيجيات كما خواء وقصر نظر هذه الحركات، إلا أن أثر خطابها يبدو مستمراً، بل باق ويتمدد، في غياب استراتيجيات رسمية لتطبيب الملايين التي عاشت لعقود لوثة هذا الفكر العقيم، الذي يشير “رشدي” في “آياته الشيطانية” إلى شموليته، واختزاليته، وقدرته على تقديم الأجوبة التي يكون قد أسس لقائمة أسئلتها التي لا يتوجب على أي كان طرح غيرها وإلا كان مصيره الموت، أو التهديد به كما حدث له هو.
غادة بوشحيط/ باحثة ومترجمة من الجزائر.