ريما بالي – الناس نيوز ::
نعيش هذه الأيام الذكرى الثانية لكارثة انفجار مرفأ بيروت. تطالعنا في وسائل الإعلام ، وكذلك الإعلام الاجتماعي ، صور الضحايا وحكاياتهم، من صبية كانت تعد لحفل زفافها، إلى أم فقدت وحيدها، وطفلة ظريفة غضة الجسد قضت بين ذراعي والدها.
تطاردنا صور الدمار المؤلم الذي لم تُزال آثاره بعد من المنطقة المنكوبة في مرفأ بيروت وما حوله. ومع الغصة الخانقة التي تصيبنا، يتبادر إلى أذهاننا كأول ما يتبادر السؤال التالي: كيف ينام من تسبب بهذه الجريمة؟ كيف يضع رأسه على المخدة إذا جاء الليل ويروح في سبات عميق؟ من قتل كل هؤلاء الناس ودمر هذه المدينة؟ .
الطاهر بن جلون يجيب عن هذا السؤال بسؤال مضاد جاء على لسان الشخصية الرئيسة في روايته “أرق”: كيف أنام هذه الليلة وأنا لم أقتل أحداً اليوم؟
لأجل الصدفة، كنت قد أنهيت قبل أيام قراءة رواية “أرق” للكاتب الطاهر بن جلون، وفي هذه الرواية وجدت إجابة عن ذلك السؤال الذي يفرض نفسه على كل من سمع بفاجعة المرفأ تلك وشاهدها ، وكل الفجائع التي شابهتها من قريب أو بعيد، كالحرب في سوريا ( التسميات تغيرات مع تقادم الوقت ) على سبيل المثال وليس الحصر، التي بالكاد جفت دماء ضحاياها من دون أن تجف دموع أحبائهم، والتي فتحت الكثير من الجروح المزمنة وزرعت أمراضاً خبيثة في أرجاء الوطن وأرواح وأجساد أبنائه، جروحاً وأمراضاً بقيت دون علاج.
الطاهر بن جلون هو كاتب مغربي يحمل الجنسية الفرنسية، أو (بحسب ويكيبيديا) كاتب فرنسي من أصول مغربية، ينتمي إلى الجيل الثاني من الكتّاب المغاربة الذين يكتبون باللغة الفرنسية، وله إصدارات كثيرة في الشعر والرواية والقصة، وتتميز أعماله بالطابع الفلكلوري والعجائبي، هو حاصل على جائزة غونكور الفرنسية عن رواية “ليلة القدر”.
في روايته أرق الصادرة عن “دار الساقي” عام 2021 والتي أتت في 240 صفحة، يقدم لنا بن جلون بطله على أنه كاتب سيناريو من طنجة يعاني أرقاً مضنياً، يكتشف أن قتْل أحد ما يمَكنه من النوم. أمه كانت أولى ضحاياه، لكن التأثير للأسف يتلاشى مع الوقت… عليه تكرار فعلته… يتحول كاتب السيناريو إلى قاتل مأجور، بحذر تام، يرتكب جرائم يريدها كاملة كما في الأفلام، وكلما كانت الضحية أهم، كان النوم أعمق وأهنأ.
الرواية عدا عن فكرتها المذهلة، التي تركت عندي أثراً عميقاً، وأسلمتني إلى تأملات طويلة، لم تكن متكاملة للأسف، إذ عابها تكرار التفاصيل ذاتها في أحداثها المتتالية، كتفاصيل التخطيط لجرائم القتل وتنفيذها، جاءت كلها على نسخة واحدة كأنها جريمة واحدة، وجاءت كلها سلسة وسهلة وموفقة ومتكاملة ما أوقع الحبكة بالسذاجة.
ولكن، بغض النظر عن الحبكة وشوائبها والمستوى الأدبي للرواية، يحسب للكاتب ابتكاره تلك الفكرة الجديدة، الصادمة والمبهرة.
عندما تقرأ العنوان: “أرق” وتعرف أنها قصة قاتل، تتوقع أنك ستقرأ قصة سفاح تصيبه ذكرى جرائمه بالأرق ليلاً، فلا ينام، لتتفاجأ أنك أمام قصة رجل عليه أن يقتل ليستطيع أن ينام، ليس القتل بالنسبة إليه فعلاً هجومياً، بل دفاعياً، يمارسه لينقذ لياليه، مستجدياً شيئاً من النوم لها: ” قليل من النوم لو سمحت… قليل من هذا الغياب اللطيف الممتع… نزهة مع النجوم في الظلام المطلق”. (اقتباس من الرواية).
هو إذن، يقتل بهدف النوم.. الذي لا يعرف سبيلاً إليه إلا إذا أزهق روحاً لم تعد تستحق الحياة، حسب وجهة نظره، فيساعدها على الموت، ويكسب من وراء سباتها الأبدي عدة ليالي من السبات الجميل.
هل تكون الفكرة فلسفة بسيكولوجية عن نفسية وأعماق القتلة والطغاة؟ فهم لا يؤرقهم أن يَقتلوا، بل يؤرقهم أن لا يَقتلوا، خوفاً من أن يُقتلوا.
من هذا المنظور، ينكشف أمامنا كيف يكرر السفاحون جرائمهم مرة بعد أخرى، ثم يخرجون للجموع ضاحكين منتعشين، مرتاحي الضمير ورائقي البال ومنفردي السحنة.
كم هو من الغباء إذن أن نتساءل كيف ينام القتلة والسفاحون؟ (كأنهم بنفس براءة فاتن حمامة، التي جسدت الشخصية الأساسية في فيلم “لا أنام”، المقتبس عن رواية إحسان عبد القدوس)، بينما هم ينعمون بنوم يزداد عمقاً كلما ازداد عدد ضحاياهم. كلما قتلوا أكثر، يشعرون بالأمان أكثر، فينامون بهدوء، وكلما قتلوا أقل، يشعرون بالتهديد والقلق، فينال منهم الأرق، ولا ينامون.
لن أتعدى هنا على أصحاب الاختصاص في مجال التحليل والطب النفسي، ولكن يتراءى لي أن هذه النوعية من البشر هي فئة مريضة عقلياً، تعاني ولأسباب مختلفة من القلق المزمن الذي يؤدي للأرق المزمن، فئة مهزوزة دائمة التوجس فاقدة للثقة وللشعور بالأمان، تشعر أنها مهددة، وأن أي اختلاف عنها قد يلغي وجودها، فتنتفض للدفاع عن وجودها، بإلغاء الآخرين، وحين تفعل، تنعم أخيراً بالسلام، لكنه سلام مؤقت، يتلاشى بعد ظهور تهديد جديد، يستدعي دفاعاً جديداً وجريمة جديدة، لنيل اطمئنان جديد.
“الخوف يهين العقل، ينتج دوامة أفكار لا تنتهي، يفرض تفكيراً يهزأ بالمعنى، يقدم تعريفات جديدة للأشياء، يسلبني خيراتي اللامادية، يحدث اختراقات في المعركة. الخوف هو هذا الجنون الصغير الذي يؤلم من دون أن يميت، بصيص النار تحت الجمر، النهر وضفافه. وأنا جالس كالأبله أنتظر مرور جثث أعدائي”. (اقتباس من الرواية ص114) .
بقراءة بانورامية سريعة للتاريخ، وباستعراض بسيط للسفاحين الذين مروا على العالم وحكاياته، منذ نيرون الذي كان يعزف ويغني منتشياً وهو يراقب روما المحترقة، مروراً بالحجاج بن يوسف الثقفي، صاحب مقولة: “إني أرى رؤوساً أينعت وحان قطافها”، ودراكولا الذي يرتوي بالدماء البشرية، ووصولاً إلى آخر سفاحي العصر الحديث الذين يحصدون بدم بارد آلاف الأرواح بأسرع الطرق وأكثرها تطوراً، ثم يتنزهون في الخرائب ويظهرون أمام الكاميرات باسمين ووادعين، نتأكد أن هذه الطائفة المريضة هي طائفة عريقة وممتدة الجذور، وأن مرضها معدٍ ومستعصٍ عن العلاج، كفيروس خبيث حير الأطباء والحكماء، هو فيروس قد يصيب أي شخص، لكن الطامة الكبرى، حين يصيب القادة وأصحاب السلطة، هؤلاء الذين يستبيحون أرواحنا وحيواتنا وأوطاننا، ويقدمونها قرابيناً على مذابحهم، من أجل أن ينعموا بليلة نوم هانئة، هؤلاء، مكانهم المناسب هو المصحات النفسية المعزولة والمحجورة، وليس منصات الحكم والقيادة ومواقع صنع القرار.
“يلا تنام يلا تنام.. لادبحلا طير الحمام…”
ولكن يا حمام… صدق… هي ليست مزحة… نضحك بها على ريما… لتنام!
نوما هنيئاً يا أعزاء.. وطوبى لمن ينام.. من دون أضاحي.