حين انتسبت إلى قسم الفلسفة في دمشق عام 1969 لم أكن مطّلعاً على أيّ مقال أو كتاب لأساتذة قسم الفلسفة فيها، بل كنت على معرفة بكتب إلياس مرقص، وبأبحاث أساتذة قسم الفلسفة في جامعة القاهرة، وكانت مجلّة “الفكر المعاصر”، التي كنت اشتريها شهرياً، مرجعي في تكوين عقلي الفلسفي وأنا طالب في المرحلة الثانوية، فأسماء مثل: حسن حنفي، وفؤاد زكريا، وزكريا إبراهيم، وزكي نجيب محمود، ومحمود أمين العالم، وآخرين من المصريين، كانت سائدة في المشهد الفلسفي العربي، وأكثر هؤلاء جاءت شهرتهم من تحليقهم خارج أسوار الجامعة. فيما كان أساتذتنا متقوقعين داخل أسوار الجامعة، حاصرين أنفسهم في تأليف كتاب مقرَّر، أو أملية مقررة، أو ترجمة بعض الكتب، ليس إلا، باستثناء عبد الكريم اليافي.
وظلّ الأمر على هذه الحال، حتى تم تعيين نايف بلوز وصادق العظم، وأحمد برقاوي، وطيب تيزيني، ويوسف سلامة، الذين حافظوا على مهنتهم الأكاديمية من جهة، وطاروا خارج أسوار الجامعة من جهة ثانية.
لا شكّ في أنّ السلطات السياسية في الوطن العربي، تسعد ببقاء الأكاديمي داخل أسوار الجامعة، لكنّها، والحقّ يُقال، لا تستطيع أن تمنع الأكاديمي، إن أراد أن يمارس نشاطه التنويري والتثقيفي والمعرفي في الحياة، بل إنّ الأكاديميين السعداء بقفصهم الجامعي وأسواره، هم أصحاب مهنة، لا موهبة عندهم، ويفتخرون بلقب الدكتور الأثير لدى العامة.
هذا لا يعني أنّ الأكاديمي المحترف لا قيمة له في الحياة الجامعية، بل على العكس من ذلك، فالأكاديمي المحترف الذي يتابع اختصاصه بكلّ جديده، ويقدّمه لطلابه على أكمل وجه، يقدّم خدمةً جليلةً لهم.
لكنّ الطامة الكبرى، إذا امتلأت الجامعة بجمهور من “الأساتذة” الذين لا علاقة لهم بالحياة المعرفية الأكاديمية، ويحملون كمية من الجهل تكفي لتدمير الجامعة لفترة طويلة من الزمن.
في كلّ الأحوال، ليس حديثي عن هذه الكارثة الكبرى، إنّما سؤالي عن ظاهرة الأكاديمي العاجز، الذي هو أشبه بخزان معلومات، فهو كالتقنيّ، لا يحوّل معرفته إلى أساس لقول جديد. هذا التقنيّ الأكاديميّ، رغم ضرورة وجوده في الجامعة، لكنّه ليس ابناً للحياة، فيما الأكاديمي الذي يملك المعرفة، ويستطيع أن يجعل من المعرفة أساساً لقول جديد: قول في العالم المعيش، هو الذي ينتمي إلى الحياة امتثالاً لحاجة الحياة، وأنا هنا استخدم مفهوم الحياة بالمعنى الشامل للكلمة: بالمعنى السياسيّ والفكري والمجتمعي والشعري والأدبي والمستقبلي والمشروع. وهذا هو الذي يساعد في تحقيق الأكاديمي معادلة الأكاديميّ والفاعل ثقافياً، فالأكاديمي الذي يبقى داخل أسوار الجامعة، ولا يقدّم للحياة ما يغني الحياة، بالمعنى الذي أشرت إليه، لا ينتمي إلى صنف المثقفين.
فحياتنا لا تحتمل أكاديمياً فلسفياً، يعرف ما قاله أفلاطون وأرسطو وكانط وهيجل وماركس هيدجر وسارتر …إلخ، ويلقّن طلابه ما يعرف فقط، وليس له مشاركة في الهمّ المعرفي والاجتماعي. إنّ عالماً يعيش التجزئة والتخلّف، وفقدان الذات، وموت الأنا، أو غيابها، يحتاج إلى ذلك المثقف المنتمي، لا إلى الأكاديمي الذي يقبع داخل أسوار الجامعة، خالياً من الهم العام.
أقول هذا القول، وأنا أرى اليوم آلاف الأكاديميين، الذين لا صوت لهم، ولا حسّ في عالم معيش يغلي بالتحولات والصراعات والاختلافات، ليس على المستوى العربي فقط، إنّما على مستوى العالم.
وهناك فرق كبير بين أكاديميي التذكر وأكاديميي الإبداع، فأكاديميّو التذكّر ليسوا سوى حفظة لمعرفة كانوا قد تعرفوا عليها دراسةً، ثمّ راحوا يتذكرونها لتقديمها إلى الطلاب، حتى كتبهم لم تكن سوى تذكّر ما استظهروه وإحالات، بعضها بين قوسين وبعضها بلا أقواس، وهذا ما أطلقت العرب عليه مصطلح “التقميش”.
أمّا الأكاديمي المبدع، فهو الذي ينتج المعرفة استناداً إلى مبدأ القطيعة، إنّه الذي يقرأ وينسى ليجدّد، وبئس جامعة لا تهب لصاحبها أجنحة للطيران خارج أسوارها، فحياتنا تحتاج إلى الأكاديمي المثقف، لا إلى الأكاديمي العاجز.