(1) السردية التاريخية والجغرافيا السياسية:
بدأ الصراع في سورية، بغض النظر عن الحالة الآن، ثورة كبرى ضمّت السوريين عموما كبارا وشبابا وأطفالا، رجالا ونساء، من كل الطوائف، بما فيها الطائفتان المسيحية والعلوية، بغض النظر عن موقفهما فيما بعد، ومن جميع القوميات، عرب وكرد وتركمان وداغستان وشيشان وشركس. مثلهم مثل باقي شعوب الربيع العربي وأسوة بثوراتهم وبمطالبهم السياسية، بالحرية والعيش الكريم وإسقاط نظم سياسية مستبدة فاسدة كان لديها من السفالة والإجرام أنْ تتآمرَ مع قوى خارجية وداخلية ظلامية أو انفصالية لتقلب محن شعوب المنطقة التي هي نتيجة حتمية للاستبدادِ إلى حروب طائفيةٍ دينيةٍ وعرقية، كي تحوّل الانتفاضات إلى حرب أهلية تشتري بها وقتا إضافيا في الحكم. وإحدى تلك التحولاتِ كانت مسألة الأقلية الكرديةِ في شمال شرق سورية.
من الصعب فهم المشكلة الكردية والمطالبِ التي رفعها فرع حزب العمالِ الكردستاني مدعيا النيابة عن أكراد سورية، ويستخدم الرصاص سعيا لتحقيقها منفصلة عن المسألة الكردية الكبرى، بتاريخها وجغرافيتها الطبيعية والسياسية وطموحات الكرد واختلافاتهم وتشابهاتهم بين بعضِهم، وكذلك مسألة النهوض القومي عند الكرد في بداية العصرِ الحديث، وأيضا فهم طبيعة حزب العمالِ الكردستاني (بي كي كي) الحزب الأكثر فعالية في العملِ السياسي والعسكري الكردي.
أول من استخدم مصطلحَ كردستان في القرن التاسع عشر هم العثمانيون للدلالة الإداريةِ على منطقة يسكنها الكرد تقع حاليا في إيران وتركيا والعراق ولها امتدادات صغيرة داخل سورية وأرمينيا وأذربيجان. للأمانة كان صعبا علي أنْ أجد خريطة متفقا عليها لكردستان، حتى بين الكرد أنفسِهم؛ وجدت خرائط عديدة تتفق على امتدادها على الدول أعلاه، لكنْ هناك خرائط تصلها بالخليج العربي عبر عربستان المحتلةِ من إيران، وبعضها يجد لها منفذا إلى المتوسط في منطقة جنوبِ وسَطِ تركيا التي تتصل مع شمال غرب سورية، وهذه منطقة لا يسكنها الكرد وإنما منطقة سكانها عرب، وبعضها يعطيها منفذين على كلا البحرين. على أن المراجع الجغرافية الثقة تؤكد أن كردستان ليس لها منافذ بحرية، وهذا سيظل سيفا جغرافيا اقتصاديا مسلطا عليها إنْ وصلت إلى مرحلةِ نشوءِ دولة كردية معادية للأمم حولها.
تقاسم الأوربيون، وخصوصا البريطانيين والفرنسيين الشرق الأوسط بعد وفاة الدولة العثمانية؛ أولى معاهدات التقسيم كانت سايكس بيكو، ثم تلتْها معاهدة سيفر، وأخيرا معاهدة لوزان والتي كانت نتيجة لنضال الحركة الوطنية التركية بقيادة أتاتورك استطاعت أنْ تعدّل الاتفاقيتين السابقتين وتضم قسما كبيرا من شمال سورية الطبيعية ومساحة مهمة من المنطقة التي يسكنها الكرد إلى المساحة التي كانت قد قررتْها المعاهدتان السابقتان لتركيا لتتشكل تركيا الحالية، وقضت على الحلم القومي الكردي بدولة قومية كانت سيفر قد أقرته؛ ولو كان السوريون آنذاك يملكون نفس روح وعزيمة الأتراك ووقفوا إلى جانب الضابط يوسف العظمة في ميسلون ضد الفرنسيين كما فعل الترك مع أتاتورك لتغيرت الجغرافية السورية الحالية بالكامل من جبال طوروس إلى سيناء، لكنهم انشغلوا بمخاوفهم الداخلية!
للعلم غالبية أكراد تركيا قاتلوا مع الحركة الوطنية التركية ليبقوا داخل الدولة التركية المسلمة خوفا من الاستعمار المسيحي، فالكرد معظمهم مسلمون سُنة، وهذا دليل أن الولاءات السياسية بمقدورها تجاوز الهويات الوطنية والقومية!
بالنهاية شاءتِ الجغرافيا السياسية لضفة المتوسطِ الشرقية وبلاد الرافدين أنْ تكون الدول التي تكوّنت فيها بعد الحرب العالميةِ الأولى وبفعل استعماري دولا ذات أكثرية قومية عربية وأقليات متعددة قوميا وأكثرية سنية وأقليات طائفية. وكل سردية تاريخية من أي قوميةٍ جاءت لا تأخذ هذه الواقعة الموضوعية بعينِ الاعتبارِ ستكون سردية تسعى لخلق تناقض قومي وطائفي زائف. كما أنه لا يمكن تأسيس السياسية المعاصرة والحقوق على السردية التاريخية لهذه الجماعة أو تلك في وقت لعبت فيه الجغرافيا السياسية للمنطقة العربية بعامة دورها في التشكيل الراهن وبإرادة قوى عالمية خارجية؟
الوعي القومي الكردي بدأ من العراق
مع قيام ثورة عام 1958 في العراق التي أطاحت بالحكم الملكي؛ أعادت قيادة الثورة مصطفى البرزاني من منفاه في الاتحادِ السوفييتي، لكنه لم يستطع الاتفاق مع قادة الثورة في بغداد، فأعلن الثورة على الثورة سعيا لتحقيق الحكم الذاتي. وعندما وصل حزب البعث العراقي للحكم عام 1963 أعلن الوحدة العسكرية مع انقلابيي بعث سورية الذين سارعوا لتقديم مساعدات عسكرية لبعث العراق لقمع ثورة البرزاني، كما ذكرت صحيفة (الرأي العام) الكويتية في عددها الصادرِ في الثاني من تموز يوليو عام 1963 نقلاً عن نيويورك تايمز: “ذكرت نيوريوك تايمز في نبأ لها من بيروت أن فوجا من الجيش السوري يشترك في القتال مع القوات العراقية في حربها ضد الأكراد، وأن طائرات الميغ السورية وضعت تحت تصرف سلاح الجو العراقي”. أما أولى مهام الوحدة العسكرية التي أعلنت بين الانقلابيْن البعثيين في البلدين كان الإعلان رسمياً عن إرسال (لواء اليرموك) بقيادة العقيد فهد الشاعر، الذي سيطر على قرى دهوك. في حين أن الحكم الوطني في سورية قبل انقلاب البعث كان من أعمدة الحكمِ فيه شخصيات كردية في مناصب رفيعة!
يعتقد أن المرة الأولى التي تدخلت فيها الولايات المتحدة الأمريكية في المسألة الكردية كانت عقب اندلاع حرب 1961 في “كردستان” العراق، مع حلفائها في المنطقة إسرائيل وإيران زمن حكم الشاه، حيث ساهم الثلاثة بتمويل التمردِ الكردي، الهدف الإيراني كان لأجل إبقاء النظام العراقي أسيراً لمشكلته الداخلية مع الأكراد وإبعاد طموحاته عن عربستان، أما بالنسبة لإسرائيل فكانت تسعى لضمان عدم نشر قوات عراقية فيما لو اندلعت حرب مع جيرانها العرب، وفعلا حصدت نتيجة دعمها للكرد فلم يستطع العراقيون في حربَي 1967 و 1973 نشر قوات كبيرة على الجبهةِ العربية التي خسرت في الحربينِ خسارة مخزية.
صدام حسين الشاب الطموح آنذاك التقى برزاني ووافق على مطالب الحكم الذاتي الكردي عام 1970 على أنْ ينفّذ الاتفاق عام 1974. لكنْ قبل موعد التنفيذ اندلعت حرب تبادل الطرفان الاتهامات فيها، ومرة أخرى بدعم من الولاياتِ المتحدة، وكانَ الهدف الأمريكي زعزعة النفوذ السوفييتي في العراق كورقة في الحربِ الباردة بينهما، وإبقاء الحكومةِ العراقية مقيدة بالمشكلة الكردية الداخلية، لكنْ مع عدم السماح بتقسيم العراق لأن الإقليم لن يكون ذا جدوى اقتصاديا لعدم وجود نافذة بحرية تحرر اقتصاده من سيطرة الدول المحيطة المعادية. مع أنَ البرزاني زار شاه إيران طلباً للمدد ضد قوات بغداد لكن الشاه وخشية من الطموحات الكردية لأكراد إيران أوقف دعمه، فتوغل صدام حسين في الجبال الكردية بعدما فقد الكرد شجاعتهم، وألقاهم حلفاؤهم تحت عجلات القطار.
مع اندلاع الحرب الإيرانية وجد الأكراد مرة أخرى فرصة لهم فأعلنوا التمرد على بغداد، يبدو أن للسياسيين الكرد ميلا لاستثمار الفوضى في تحقيقِ طموحاتهم، مثل ذلك حدث بعد ثورة السوريينَ عام ألفين وأحد عشر!! عندها قاد الجيش العراقي حملة تأديبية مروعة استخدم فيها الكيماوي، ولم يتدخلْ حلفاء الكرد، بما فيهم أمريكا، للدرء عنهم، لأنهم أملّوا بحرب متوازنة بين العراق وإيران تطول ما أمكن من الوقت.
حثت الولايات المتحدة الأمريكية الكرد على التمرد على حكم صدام بعد غزوِ الكويت، ومرة أخرى بعد نهاية الحربِ ألقاهم بوش الأب للإهمال، لكنه عاد بعد عام ومنحهم إقامة هادئة في ظلِ منطقة حظر طيران، وفي عام 1992 أنشأ أكراد العراق أول حكومة متمتعة بالحكم الذاتي بتحالف وحماية أمريكية.
حزب العمال الكردستاني:
أسس مجموعة من الطلاب الأكراد الترك الماركسيين المهمشين تنظيما سريا دعوه “حزب العمالِ الكردستاني”، واختاروا عبد الله أوجلان رئيساً له عام 1978، مركزه جبال قنديل، هدفه: فصل كردستان عن الدول الواقعةِ فيها والسعي لإقامة دولة ماركسية لينينية بمطرقة القوة. ودخل الحزب بدعم سوفييتي في إطار الحربِ الباردة ضد تركيا الحليف الأمريكي المجاور لأراضيه، وبدعم مباشر من حافظ أسد، الذي تخلى عنه عام 1998 بعد تهديد تركي مباشر مما أسفر عن اعتقال أوجلان، واعتبرتْ ضربة قاصمة للحزب بعدما ازادت قوته ووصل أعضاؤه إلى عشرة آلاف عضو.
قاد الحزب عمليات إرهابية في الأراضي التركية وعلى المصالح التركية، تسببت بمقتل نحو أربعين ألف تركي، لذلك تم تصنيفه كمنظمة إرهابية على لوائح أمريكا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وتركيا وإيران وسورية، ويتبع لحزب العمال الكردستاني: حزب الحياةِ الحرة الكردستاني العامل في إيران، والذي بدأ مطلع هذا القرن عملياته ضد طهران، علما أن أكراد إيران يرفضون الانفصال، كما يتبع له حزب الحل الديمقراطي لكردستان العراق وكذلك يتبع له في سورية حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات سورية الديمقراطية ووحدات حماية الشعب، وجميعهم جماعات مسلحة؛ أما الروابط الحقيقية بين هذه الأحزاب الكردية نتبيّنها من مقابلة أجرتها صحيفة وول ستريت جورنال، مع مقاتل كردي قال: “أحيانا أنا من حزب العمالِ الكردستاني التركي، وأحيانا أنا من حزب الحياة الحرة الكردستاني في إيران، وأحيانا أنا من وحدات حماية الشعب في سورية، لا يهم حقاً، كلنا أعضاء في حزب العمال الكردستاني”. لهذا السبب اعتبرت الحكومات المستهدفة في المنطقة أن ما يحدث هجمات مرتزقة وليس انتفاضات كردية!
نحن إذاً أمام نموذجين كرديين يسعيانِ للثورة، البرزاني والأوجلاني، مختلفيْن متصارعيْن ومتفقيْن أحياناً. أترك لآلدار خليل مؤسس وعضو هيئة الرئاسة المشتركة لحزب الاتحادِ الديمقراطي في سورية شرح الفروقات بينهما:
“الجماعات الكردية الحديثة تتبع فلسفاتها السياسية لواحد من شخصيتين مؤسستين: مصطفى بارزاني أو عبد الله أوجلان. الفرق الأساسي بين الاثنين هو أن البرزاني، والد الرئيس الحالي لحكومة إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني، دعا إلى بناء دولة كردية قومية قائمة على الأرستقراطية وحكمِ القلة، فيما دعا أوجلان إلى دولة اشتراكية… إذ ينبع الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق من مدرسة بارزاني الفكرية، ونتيجة لذلك فإن حكومة إقليم كردستان تحكمها قلة، وتتركز السلطة والثروة في أيدي عائلة بارزاني وأصدقائها. من الناحية الأخرى، تمتد مدرسة أوجلان الفكرية إلى حزبِ الاتحاد الديمقراطي، وحزب الشعبِ الديمقراطي المؤيد للأكراد في تركيا، وحزب العمالِ الكردستاني، فضلاً عن مجموعات أخرى في العراق وإيران. كل هذه المجموعات طبقت أفكار أوجلان بشكل مختلف وسعتْ إلى أهداف مختلفة، وتفاعلت (تعاملت) مع لاعبين جيوسياسيين مختلفين”.
مصطفى البارزاني لم يكن أرستقراطيا فاسدا كما يصوره ألدار خليل، فالتاريخ قدمهُ زعيما شعبيا عشائريا قاد ثورة، لكنْ فشل مشروعه في إقامة الدولة الكردية، بسبب عوامل إقليميةٍ/دولية معقدة، دفع إلى الاعتقاد بأن أوجلان التقدمي الاشتراكي سيتفوق على البارزاني التقليدي الرجعي في تحقيق حلم الدولة. ولعل هذه المفارقة شبيهة بقول البعثيين بأن حكم شكري القوتلي رجعي متخلف وحكم البعث تقدمي اشتراكي! ولعله من نافل القول أن نرى ما حققه البعث من كوارث لسورية، ونقارنه بما جره أسلوب أوجلان من كوارث على القضيةِ الكردية حين جرّها إلى بازارات الصراع الدولي وحولَّها أداة للغرب القوي ضد شعوب الشرق المستباحة!
سيلاحظ القارئ معي أن العامل الأقوى في هذهِ المشكلةِ هي الخرائط التي رسمَها الإمبرياليون الأوروبيون حسب مصالحهم القريبة والبعيدة: الاحتلال والنفوذ والتدخل الدائم عبر خلق صراعات دائمة لن تحقق الاستقرار والتنمية لشعوب المنطقة! هذه الخرائط جعلت الشعوب المحرومة تقاتل بعضها بدل أنْ تسعى لفك الدوامة التي زجّهم المستعمر فيها. هل كانت الحدود لو رسمتْ بطريقة أفضل كان الشرق سيكون أكثر استقراراً؟ لا أملك الجواب ولا أحد يستطيع، لكن الواقع رديء.
دعمت عدة عوامل تشكيل الوعي القوميِ الكردي أهمها:
المظلَمَة التي تشكلت بغياب عقد اجتماعي وعقد سياسي يضمن المواطنة لجميع سكان المنطقة، والتي استثمرها حزب العمال وجيّرها وكأنه مظلَمَة كردية بحتة وليس جميع سكان المنطقة يعيشون جحيمها.
الصراع والفوضى، كما في العراقِ وسورية، عزز المطالب الكردية الانفصالية في حين أن هذه المطالب تضعف في المناطق الأكثر استقرارا كتركيا، التي أعطى الأكراد أصواتهم الانتخابية لحزب العدالة والتنمية ولديهم ممثلون في البرلمان التركي، وكذلك في إيران وأرمينيا وأذربيجان.
كما أن عاملا آخرَ مهما وهو التنظيم والنشاط الدؤوب لأعضاء حزب العمال جعلهم سفراء أقوياء لقضيتِهم. وكنت لاحظت انتشارهم في كثير من الساحاتِ العامة في أوروبا، يستثيرون المارة بصور المجازر ويشرحون لهم قضيتَهم كما يرغبون أنْ تكون!
رابعاً: الدعم الدولي لاستمرار الصراع المميت على مبدأ اللاغالب ولا مغلوب.
أما عن الصراع الكردي العربي على الأراضي السورية في السنوات العشر الأخيرة، وأسبابه وتعقيداته والموقف منه، وإمكانية تخفيف حدتِه وتفاعلاته، أظن أنه أوسع وأغنى من أنْ تتسع له مساحة مقالة اليوم؛ لذلك فضلّت أنْ تكون له مقالة أخرى في الأسبوع القادم تمكّن القارئ من المعرفة وتمنحه القدرة على تشكيل رأيه وصنع قراره من الصراع.
يتبع…
غسان عبّود