طارق علي – الناس نيوز ::
في الوقت الذي تراجع فيه إنتاج الكهرباء في سوريا إلى ما دون ألفي ميغاواط/ساعة، بات اعتماد المواطنين على المصادر البديلة أمرا واقعا.
ويصل الطلب على الكهرباء في البلاد إلى نحو 7 آلاف ميغاواط، إلا أن البلاد تعاني من أزمة وقود، تسببت بتوقُّف العمل بالعديد من محطات الإنتاج، فضلًا على تدهور البنية التحتية جراء سنوات الحرب الطويلة التي عاشتها دمشق، ليظهر حل “الأمبيرات” كبديل للكهرباء الحكومية.
وشرّع النظام في سوريا ولو بشكل موارب إلى تفعيل نظام عمل (الأمبيرات)، والأمبيرات هي اسم شعبي متعارف عليه في البلاد، ويعني نظام تزويد المنازل والمحال والفعاليات التجارية المحدودة بالطاقة الكهربائية المولدة عبر المولدات الصناعية التي تعمل غالباً عبر مادة المازوت.
وسميت بالأمبيرات كون نظام التزويد فيها يقوم على حصة يومية، أسبوعية، شهرية، تعتمد على عدد الأمبيرات التي يطلبها المشترك، والتي يكون حدّها الأدنى أمبيراً ويكفي لتشغيل إضاءة بسيطة وشاشة تلفاز حديث، وصولاً إلى تشغيل الغسالة والبراد وسواها من الأجهزة الكهربائية كلما ارتفع عدد الأمبيرات المستجرّة، ويتوقع أن يباع الأمبير الواحد بنحو مئة ألف ليرة أسبوعياً مقابل 8 ساعات تشغيل يومياً.
الرواتب في سوريا تتراوح من 37,600 ليرة (الحد الأدنى) إلى 663 ألف ليرة (الحد الأعلى).
ومتوسط الرواتب هو 131 ألف ليرة
1 دولار أمريكي يعادل 9,400 ليرة سورية
تباين حكومي
تشريع العمل المستجد ذاك يشمل مدينة دمشق، العاصمة، وليكون حلاً بديلاً لغياب الكهرباء الذي وصل حدود قطع 20 ساعة يومياً في بعض الأحيان. ولكن في الأسبوع الأخير من شهر يونيو/حزيران الفائت، صدر قرار مفاجئ موجه من رئاسة مجلس الوزراء إلى وزارة الإدارة المحلية والبيئة يطالبها بالتشديد على المحافظين بملاحقة بائعي الأمبيرات (غير المرخصين).
كيف حصل ذلك؟، الحكومة نفسها قد سمحت بالمشروع وأوعزت بمنح التراخيص في بدايات الشهر الفائت، ليترك الكتاب الحكومي الباب مفتوحاً على مصراعيه لأسئلة سببت مشاكل في فهم ما يحصل.
متابعون استغربوا التباين بالموقف، فالمعطيات على الأرض أوحت لهم بـ “طبخة” تعدّها الحكومة لغايات في نفسها، فتتيح العمل بتوسع أفقي متنامٍ، وفي ذات الوقت تحصل على المكاسب التي تريدها في ظلّ آليةٍ غير مفهومة المعالم منذ بدايتها حتى.
وزارة الكهرباء أكدت أنّ لا علاقة لها بالتراخيص أو العمل، وبأنّ لديها كهرباءها النظامية التي توزعها، وبأنّ الأمر من اختصاص المجالس المحلية وليس الحكومة حتى، فكيف إذاً أعطت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية رخص استيراد المولدات الضخمة تلك دون إذن من الوزارة المختصة؟ وهل ذلك الكم الاستيرادي وهو بحسب مصادر لـ “الناس نيوز” كان كثيفاً في الأشهر الماضية.
الاستسلام
قد يبدو المشروع للوهلة الأولى جيداً، لكنّه يخفي الكثير وراءه، فتفعيل هذه المنظومة في العاصمة بعد 12 عاماً على الحرب يعني غياب أي أفق يحمل حلولاً في ملف الطاقة بعكس ما تبشر به الوزارة باستمرار عن انفراجات تحصل وستحصل. وعن افتتاح وتدعيم وترميم محطات توليد ضخمة في حلب واللاذقية مثلاً، وفوق كل ذلك ما رشح من معلومات صحفية مؤخراً بعد أزمة “فاغنر” في روسيا حول استيلائها على عقود كبيرة من حصص الطاقة في سوريا خلال السنوات الماضية.
وتنتج سوريا اليوم فقط 2000 ميغا واط، فيما تبلغ قيمة العجز الكلي حوالي 4500 ميغا واط، وفي حال حصلت استثمارات ضخمة أنهت الوضع القائم فإنّ سوريا ستحتاج لسنين طويلة لتتمكن من تلافي العجز على مراحل، فلو تمكنت من مضاعفة إنتاجها سيظلّ لديها عجز بأكثر من الثلث العام.
الخصخصة والتمهيد لها
سيخضع المشروع للخصخصة فالحكومة السورية أذكى من أن تديره عبر مؤسساتها المباشرة، فسيتم تسليم إدارته بحكم الضرورة والواقع لأشخاص متنفذين، والأخطر من ذلك هو تزامنه مع حملة إزالة تامة لكل بسطات الباعة في العاصمة (أسواق الفقراء) لتحل مكانها المولدات مستقبلاً حسب آراء متطابقة.
وكانت محافظة دمشق (الجهة التنفيذية في وزارة الإدارة المحلية) نفذت قبل نحو شهرين حملة شعواء استهدفت إزالة كل أسواق البسطات في العاصمة دمشق، لتحيل معها أرزاق الآلاف إلى هباء، وتجعلهم تحت خط البطالة بعدما كانوا أساساً تحت خط الفقر، وهو بحدّ ذاته موضوع آخر جعل النقمة ترتفع أكثر في وجه الحكومة التي يرأسها حالياً المهندس حسين عرنوس، والتي فشلت إلى جانب ما سبقها من حكومات الحرب أن تستميل الناس إلى صفها، ولو مرةً واحدة.
المحافظة قالت حينها إنّها أزالت تلك البسطات المنتشرة في معظم أحياء العاصمة وخصوصاً في وسطها الحيوي لمراعاة الجانب الجمالي وفسح المجال أمام المارّة والسيارات للعبور بأريحية فضلاً عن إزالة التعديات، ولكن الناس يتخوفون اليوم أن تكون تلك الإزالة تمهيداً لاستبدال البسطات بالمولدات الكبيرة.
الغني والفقير
ولو حصل ذلك، وحقيقةً لطالما حصلت أشياء مشابهة، فسيكون تعزيزاً جديداً لانتصار الغني على الفقير، لسببين، الأول: القضاء على كسب الفقراء، وحتى لو لم يتحقق السبب، فيبقى الآخر وهو لا يقل خطورة لأنّ حجم اشتراك المنازل بكهرباء الأمبيرات سيكون بكلفة عالية وغير منطقية ولكن الناس حكما سيقبلونها كأساس لمرحلة قادمة لا كهرباء فيها.
ولكن ليس جميع الناس بالتأكيد، فسنرى بيوتاً كثيرة مضاءة بالشموع أو “الليدات”، وبيوتاً أخرى مضاءة كما كانت تضاء البيوت يوم عزّ الطاقة في البلاد قبل الحرب، بصرف النظر عن التكلفة مهما كبرت، والتي ستكون بلا شك معادلة أضعاف مرتب أي موظف حكومي.
يقول المهندس الإنشائي عمران حبابة المقيم في مدينة اللاذقية على الساحل السوري إنّ نظام الكهرباء بأكمله مرتبك ومثير للشبهات، “هو فرز بين غني وفقير، بين شخص يحق له التنعم بالكهرباء وآخر عليه أن يعيش على العتمة، وصول الأمبيرات إلى دمشق يعني دخولها الساحل وبقية المدن السورية تباعاً وهو ما يعتبر أمر خطير”.
ويضيف: “الآن شرعنة الأمبيرات هو اعتراف من الحكومة بعجزها عن إيجاد حلول تشغيلية وتمويلية، وينذر بالخطر الحقيقي وبسنوات طويلة من اللا كهرباء، وبمجرد أن نبدأ بإيجاد حلول غير منطقية لمشاكلنا ويعني فقداننا العنصر الاستراتيجي في التفكير، ونحن هنا نتحدث عن دولة لا عن قرية”.
ماهر سلّوم موظف حكومي في دمشق، يقارب الأمر من زاوية أخرى، ويسأل عن إمكانية أن تدعم الدولة شراء المنازل للكهرباء، يقول: “مثلاً هناك 600 ألف سيارة في سوريا، تدعم الحكومة الجزء الأكبر منها بالبنزين، ولا يستفيد بقية الشعب من الدعم، لِمَ لا يتم دراسة دعم الأمبيرات إلى المنازل؟ مثلاً أن يكون الأمبير الأول مدعوماً وما يتخطاه مدفوع الأجر النظامي”.
من أين المازوت؟
وفوق كل ذلك، ثمة ما هو أكثر تعقيداً في الملف عينه، وهو ما يثير التساؤل حول طريقة تأمين آلاف ليترات المازوت لتلك المولدات يومياً في بلد يفترض أنه يعيش حصاراً خانقاً في قطاع المحروقات أدى لتخصيص 50 ليتراً سنوياً فقط لكل أسرة.
هل تتجرأ الحكومة وتدعم بعضاً من الطاقة الجديدة هذه؟ قطعاً لن تفعل، ولعلّ واحد من أسباب ابتعادها عن المشهد التنفيذي، ولكن هل تمرّ القصة؟، فمن سيؤمن تلك الكميات من المازوت؟ تلك كميات يومية تحتاج دولةً لتؤمنها، وكذلك لمن ستذهب الأرباح النهائية؟ هذه أسئلة يستحيل الإجابة عليها الآن.
أرباح مهولة وسريّة تامّة
صحيح أنّ حلب كانت سبّاقة لتقديم نموذج المولدات ومنذ سنوات، ولكنّ التجربة لم تكن بأفضل حال، فالمدينة تختنق بالتلوث اليوم، ويخضع سكانها لمزاج ما يسمونهم منذ زمن بـ “أمراء الأمبيرات”، وفي السياق، كان رئيس غرفة صناعة حلب، فارس الشهابي، تحدث في العام الماضي عن أرباح أولئك الأمراء في حلب وقدرّها بنحو 40 مليار ليرة سورية شهرياً.
الأمر يختلف تصاعداً في دمشق، فهي المدينة الأكبر بتعداد سكانها اليوم، وبكتلتها السكنية والعمرانية أيضاً، ما سيجعل أرباحها، بلا شك، مضاعفةً عن حلب.
“الناس نيوز” حاولت بطرق مختلفة الحصول على أسماء الذين تم منحهم الرخصة من قبل إدارة محافظة دمشق لتشغيل تلك المولدات في دمشق، ولكن دون نتيجة، ثمة تحفظ وتكتم شديد حول الأمر، وكذلك حصره بأشخاص محدودين جداً، ولكنّ مصدراً مطلعاً في المحافظة قلل لـ “الناس نيوز” من أهمية الحصول على تلك الأسماء، واصفاً إياها بالوهمية كما قال أيضاً: “هي واجهات لحيتان كبار”.
وحول سرّية الأمر تقول نجوى اسم مستعار لفتاة تعمل في المحافظة فضلت عدم الكشف عن اسمها لأسباب تتعلق بوظيفتها: “لا تعتقد أننا كموظفين مسموح لنا الاطلاع على أمور كهذه، نحن مثل بقية الناس في الشارع، نسمع من هنا وهناك ومن مواقع التواصل، ولكن ما أستطيع تأكيده أنّ الحكومة تنصلت لسبب ما من المشروع ورمت به على كاهل محافظة دمشق”.
جباية لا حل
وفق مجمل من سألتهم “الناس نيوز” من أناس وبينهم اقتصاديون ومتابعون، كان هناك اتفاق واضح أنّ ما يحصل اليوم في المشروع هو واحد من أسوأ الخطط التي تقدمها الحكومة السورية المتهالكة بفعل سياسات اقتصادية باتت أقرب للجباية من أن تكون ذات فاعلية تنعكس انفراجات على شعبها.
وفي ضوء كل ما سبق، وكل ما هو منتظر، فإنّه من نافلة القول الحديث مجدداً عن التباين المجتمعي الذي سيصنعه المشروع، وفي ذات الوقت قد يكون سكان آخرون بانتظاره، فالناس في انتظار الكهرباء صاروا يتامى وأشباه أكِفّاء.


الأكثر شعبية



الشرع يستقبل عضو الكونغرس الأميركي كوري ميلز والوفد السوري…
