د. خالد عبد الكريم – الناس نيوز
داريل باركر DARYL BARKER، بريطاني كان يعمل في منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة في عدن. لم تمحى من ذاكرته تفاصيل تلك الأيام من يناير/كانون الثاني 1986. قرر أخيرا أن يخرج عن صمته ويتحدث عن تلك الأحداث في مقال نشرته بالإنجليزية مجلة الجمعية البريطانية اليمنية في عددها الصادر في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
” كنت مختبئاً في إحدى شقق حي خورمكسر. هدير الدبابات لصيق بسورنا. وطلقات الرصاص تسمع ولاترى: “كان الأمر خطيراً ونحن لا نستطيع حماية أنفسنا. متارسنا الوسادة واللحاف في ممر صغير في بيتنا الخشبي كان الأمر مرعبا”.
داريل باركر.
الاثنين 13 كانون الثاني (يناير) 1986
“شخصياً لم يكن لدي أدنى فكرة عن الأحداث التي اندلعت الإثنين، 13 يناير/كانون الثاني 1986. ذلك الصباح كنت في موقف سيارات رصيف ميناء عدن، عندما سمعت إطلاق نار وبعض الانفجارات القوية مصدرها مكان قريب (حيث كانت قد بدأت في الواقع عملية الاغتيالات). أسرعت إلى مكتبي في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي في منطقة خورمكسر. نصحوني العودة إلى المنزل على الفور، والبقاء فيه. لا معلومات أخرى. سرعان ما وصلت إلى منزلي الذي كان عبارة عن سكن صغير مستقل جاهز الصنع بعيداً عن مجمع الأمم المتحدة الرئيس في خورمكسر. عشت فيه مع زوجتي الهولندية، وابنتي فرانسيسكا ذات الستة عشرة شهراً.
الجيران الروس كانوا لطفاء معي. تحدثت معهم، لكنهم رغم اللطف الذي أبدوه لم يستطيعوا إخفاء انزعاجهم. كان القلق باد عليهم، لكن كان يبدو أنهم يكتمون شيئاً عنا.
في وقت لاحق سمعنا إطلاق نار من أسلحة خفيفة يتزايد في منطقتنا وخارجها وقمنا بضبط قناة BBC World Service على راديو الموجة القصيرة، كما كنا نفعل في الأيام العادية، ولكن هذه المرة لمحاولة معرفة ما كان يدور حولنا.
المفاجأة أن إذاعة بي بي سي كانت تكرر رسالة وزارة الخارجية البريطانية التي كانت تقول
“على جميع الرعايا البريطانيين في جنوب اليمن الاتصال بشكل عاجل بالسفارة البريطانية، على الهاتف رقم 32711”.
لم تكن خدمة الهاتف قد وصلت المنزل. قضينا بقية اليوم نتساءل عما يجب القيام به، لم يكن أمامنا سوى الاهتمام بابنتنا الرضيعة. نحاول جعل الأمور طبيعية قدر الإمكان. ومع ذلك، في وقت لاحق من بعد ظهر ذلك اليوم، قبل حلول الظلام، سمعنا ورأينا من خلال النافذة دبابة ضخمة تصل بصخب شديد وتتوقف على بعد أمتار قليلة بجوار سور منزلنا. سرعان ما ظهر مسلحان تجولا في المكان. لم يقدما على شيء غير ذلك.
وجهت قذائف الدبابة باتجاه وسط خورمكسر حيث كانت هناك قاعدة عسكرية. شعرنا بالرعب ولجأنا إلى ممر وسط المنزل. نامت ابنتنا فرانسيسكا، ظللنا نتابع ما يدور خارج البيت بكل حواسنا.
الثلاثاء 14 يناير 1986
عند الفجر. ببطء تحركت الدبابة من مكانها ولكن بهدير عظيم. ابتعدت عن منزلنا لم أعلم إلى أين هي متجهة. حتى تلك اللحظة لا أعلم ما يدور حولنا. ماذا يحدث بالفعل. لم أتواصل مع أي شخص باستثناء جيراننا الروس، الذين من المستحيل أن تتحصل منهم على معلومة.
غادرت الدبابة المكان ولا تزال أحداث الليل أمام مخيلتنا. فرانسيسكا بدا وكأنها قد نامت رغم كل ذلك.
تناولنا بعض الإفطار. عبر السياج تحدثت مع إيغور جارنا الروسي، الذي كان خائفاً مثلنا على ما يبدو. جيراننا اليمنيون في المنازل المجاورة، اختفوا فجأة.
المكان هادئ جداً باستثناء النعيق المستمر من الغربان في الأشجار المحيطة بنا. كان منزلنا معزولاً إلى حد ما وكان بعيداً عن مجمع الأمم المتحدة ومكاتبها، لذا لم تصلنا أي أخبار منهم عما يحدث.
في الحقيقة منذ وطأت قدمي اليمن الديمقراطية عام 1983حتى تلك اللحظة، لم أواجه أي مشاكل أمنية في العيش والعمل في الدخول والخروج والحصول على تراخيص. لكنني كنت على دراية جيدة بالرقابة الصارمة المفروضة علي، لا سيما وأني بريطاني أعمل في مكتب الأمم المتحدة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
في حلي وترحالي وفي كل مكان زرته كان التعامل معي راقياً من قبل الأمن. في بعض الأحيان كان المدنيون بالذات كبار السن الذين لديهم بعض الحنين إلى الماضي الكولونيالي. يبدون وداً كبيراً ومشاعر جياشة تجاه بريطانيا. يجب أن أعترف أنه عندما وصلنا إلى عدن في أكتوبر/تشرين الأول 1983، كنت نرجسياً الى حد ما، وغير مطلع على تاريخ جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والوضع السياسي البالغ التعقيد في ذلك الوقت. ومع ذلك، كانت الحرب الأهلية والإخلاء الذي شاركت فيه بعد ذلك في عام 1986 بمثابة درس قاس. أصبحت بعد ذلك أتعمق في فهم التناقضات المحلية والصراعات السياسية قبل العمل في الدول التي أوفدت اليها لاحقاً.
هذا الصباح 14 يناير/كانون الثاني 1986 كان قد مر بي فريق هولندي تابع لمنظمة (الفاو) واتفقنا على الانتقال إلى مكان أكثر أماناً في شقة تجمع عدة عائلات في الطابق العلوي من مبنى خرساني مع موظفين آخرين من الأمم المتحدة/منظمة الأغذية والزراعة. المبنى يطل على البحر على شاطئ خورمكسر. المباني الخرسانية القريبة وصلها خبراء أجانب آخرين، بما في ذلك الكثير من الروس والألمان الشرقيين. لقد قمنا بخزن ما اعتقدنا أننا قد نحتاج إليه دون أي فكرة عن المدة، وأخذنا أيضاً عدة أواني بلاستيكية كبيرة مليئة بالمياه وأطعمة ومشروبات كانت في الأصل موجودة لدينا.
أخذت سيارة أحد مشاريع منظمة الزراعة والغذاء العالمي، كانت من نوع لاند روفر. أوقفتها بالقرب من المبنى الخرساني الذي انتقلنا إليه. بقيت على حالها حتى غادرنا يوم الجمعة بعد الظهر عندما بدأ الإخلاء.
تابعنا إذاعة بي بي سي وراديو هولندا لمعرفة أي أخبار. وانتظرنا. بدا أن إطلاق النار والانفجارات صارت أقل في منطقة خورمكسر وظل الهدوء نسبياً تلك الليلة.
الأربعاء 15 يناير/كانون الأول 1986
تدنت حدة القتال، توجهت صباحاً إلى الشاطئ لجلب مياه من البحر لتلبية الاحتياجات المنزلية. فجأة ظهرت في فترة ما بعد الظهر، مجموعة ضخمة من المسلحين بالزي الرسمي. يتجمعون أمام المبنى الذي نسكنه من جهة الشاطئ في عدة مجموعات. اندلع شجار غير مسلح بينهم. ارتفعت الأصوات غادروا جميعاً بإتجاه وسط خورمكسر. لم يعودوا بعد ذلك.
اعتدنا الأمر. زال الخوف. تذكرت حادثة أثناء شجار المجموعة المسلحة كنت أنظر بحذر من الشرفة وفجأة بدأت فرانسيسكا بالبكاء، التفتوا إلى الأعلى. تجاهلونا ومضوا.
الخميس 16 يناير/كانون الثاني 1986
لا أتذكر الكثير عن هذا اليوم باستثناء أننا شاهدنا، في وقت ما خلال الصباح، دبابة تسير ببطء على طول الشاطئ أمامنا من اتجاه الشرق، وفجأة اندلعت بعض النيران من خلف المبنى باتجاه تلك الدبابة. كان رجلان في الطابق الأرضي يطلقان قذائف على الدبابة. أدارت الدبابة برجها ببطء نحو بنايتنا وبدأت في إطلاق مدفعها العشوائي نحونا، ما أدى إلى إصابة عدة جهات خارجية من المبنى.
رفعنا ملاءة بيضاء على الشرفة! تم نقل النساء والأطفال بسرعة إلى الغرفة الخلفية للاحتماء تحت المراتب.
بعد فترة، توقفت جميع عمليات إطلاق النار وتحركت الدبابة ببطء على طول الشاطئ باتجاه الجانب الغربي من خورمكسر. رأينا الرجلين مع قذائف آر بي جي يتسللان بعيداً عن المبنى.
الظهيرة، توجهنا كالعادة الى الشاطئ لجلب مياه من البحر لغسل المراحيض لأن إمدادات المياه الرئيسة قد توقفت، لكن إمدادات الكهرباء كانت مستمرة.
الجمعة 17 يناير/كانون الثاني 1986
لقد لاحظنا مجموعة من السفن في الأفق ويبدو أنها تقترب من الشاطئ نحو خورمكسر. رأينا الكثير من الروس يغادرون في حافلات من المباني المجاورة. في منتصف النهار تلقينا رسالة من الممثل المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي مفادها أن جميع موظفي الأمم المتحدة الأجانب وعائلاتهم يجب أن يتجمعوا أمام السفينة الروسية EM الجاهزة للإخلاء من الشاطئ. قمنا بتعبئة أمتعتنا الشخصية في حقائب صغيرة وقمت بقيادة مجموعة من الرعايا البريطانيين من الشقق التي كنا نقيم فيها باتجاه السفارة السوفيتية على واجهة الشاطئ حيث التقينا بالعديد من الأصدقاء والزملاء، جميعهم يترقبون المغادرة بحماس شديد. هربا من تلك الأيام الكئيبة. بعد فترة، عندما رأينا قوارب النجاة تنطلق من عرض البحر وتتجه نحو الشاطئ، ذهبنا إلى الشاطئ في انتظار الصعود على متن السفينة حيث ذهب العديد من الروس أولاً ثم أفراد الأمم المتحدة. نظراً لأن المياه كانت ضحلة إلى حد ما، فقد واجه الكثيرون صعوبة في ركوب القوارب التي ظلت في المياه العميقة. كنت على وشك إعادة سيارة لاند روفر إلى المبنى الذي كنا نقيم فيه عندما اقترب مني رجل وطلب مفاتيح السيارة. لم أكن مستعداً للتجادل معه، لذا سلمته المفاتيح على الفور. ثم اكتشف زوجاً صغيراً من المناظير التي كنت أحملها حول رقبتي وأشار إلى أنه سيحصل عليها أيضاً. عندما سألته عما إذا كان يرغب أيضاً في أخذ سترة الأمم المتحدة التي كنت أرتديها، ابتسم لي ابتسامة ساخرة وقال “لا، لا، شكراً” وضحكنا بعصبية.
ذهب وكان يقود السيارة ذهاباً وإياباً على طول الشاطئ لبعض الوقت قبل أن يختفي.
حل الظلام. بينما كنا نتجول ونتحدث، أبلغنا شخص من السفارة البريطانية أن اليخت الملكي البريطاني كان في طريقه للمساعدة في عملية الإجلاء. لم نصدق ذلك في البداية ولكن تأكدنا عندما رأينا أضواء اليخت. انضممنا إلى قائمة الانتظار. النساء والأطفال أولاً. كانت حافلتان قدمتا من السفارة البريطانية خلفنا. مصابيحها الأمامية مضاءة. جاءت قوارب صغيرة الى المياه الضحلة ونقلت الدفعة الأولى من الرعايا إلى اليخت الملكي.
عندما تم إنقاذ جميع مجموعة الانتظار، بما في ذلك أشخاص من عدة سفارات مختلفة والعديد من الأشخاص الآخرين، معظمهم من الفرنسيين. ذلك المساء وصل العدد إلى حوالي 150 شخصاً.
لم أصعد تلك الليلة. عدت إلى الشقة. هدوء مريب يلم المكان بكامله. من الشرفة شاهدت اليخت بريطانيا يبتعد قليلا باتجاه بحر العرب، سيعود عند الفجر. شعرت بالارتياح فرنسيسكا وأمها أصبحوا الآن بسلام.
السبت 18 يناير 1986
استمرت عمليات الإجلاء التي قام بها اليخت بريطانيا والتي شاركنا بها أيضاً وانتظرنا دورنا للصعود على متن أحد القوارب الصغيرة، للوصول لليخت في عرض البحر. عندها تفاجأنا بوابل من الرصاص ناتج عن إطلاق نار كثيف باتجاه منطقة الإجلاء. لحسن الحظ لم تكن هناك إصابات.
تمكنا من الصعود إلى متن اليخت بريطانيا ومعنا سفير بريطانيا في عدن وزوجته.
بالنسبة لي عملية الإجلاء كلفتني ضياع جواز سفري وأغراض شخصية أخرى. كان هناك الكثير، لسوء الحظ، تركوا ينتظرون على الشاطئ ذلك الصباح. بقاء اليخت فترة أطول قريباً من الشاطئ لم يكن صائباً لأسباب أمنية، لازالت جميع السيناريوهات مفتوحة.
عندما صعدت أخيراً متن اليخت بريطانيا، وبعد أن تم تقييد اسمي ضمن من تم إجلائهم، سألت “أين يمكنني أن أجد زوجتي وابنتي؟” أخيراً التقينا على إفطار إنجليزي حقيقي.
قبل مغادرة اليخت ألقينا نظرة إلى عدن التي كانت تحترق.
قبل الوصول إلى جيبوتي تم نقل المواطنين الفرنسيين الذين كان عددهم 80 شخصاً، عبر قوارب مطاطية تابعة للبحرية الفرنسية إلى مدمرة فرنسية خاصة كانت في انتظارهم خارج المياه الإقليمية.
وصلنا جيبوتي منتصف ليلة الأحد 19 يناير/كانون الثاني 1986.
أنقذ اليخت بريطانيا 1082 من 1379 شخصاً عالقاً في عدن من 55 جنسية خلال عملية أطلق عليها اسم بلزاك.
ويكتب داريل باركر عدت إلى عدن في يونيو/حزيران 1986 بعد خمسة أشهر من مغادرتها لمواصلة مشروعي بمنظمة الأغذية والزراعة، وإنشاء 18 مركزاً لما بعد الحصاد في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. كان موظفو مكتبي وزملائي في الأمم المتحدة والعديد من الأصدقاء سعداء للغاية بعودتنا. لكن عدداً من العاملات أصبحن أرامل. وكثير من الأصدقاء أصيبوا بصدمات نفسية شديدة. لم تعد الحياة كما كانت. تعرض منزلنا للنهب، والجانب الذي كانت فيه غرفة النوم مليء بثقوب الرصاص.
حاولنا الاستمرار كما كنا قبل الحرب في يناير/كانون الثاني وما تلاه من إخلاء. حقيقة لم نواجه أية مشاكل أخرى إلى أن غادرت عدن نهائياً عام 1989، بعد أن تكلل مشروعي العملي بنجاح، وبدعم كامل من الحكومة ومكتب الأمم المتحدة.