[jnews_post_author ]
في 31/1/ 2019 قام البابا فرانسيس بزيارة للإمارات العربية المتحدة وكان شيخ الأزهر بين من حضروا لاستقباله. وعندما اجتمع الاثنان قيل في وصف هذا الاجتماع بأنه لقاء بين رئيسي أكبر ديانتين في العالم. هذا الوصف ينطوي على خطأ بيّن لأن البابا هو فعلاً رأس الكنيسة وصاحب السلطة الدينية على كل أتباع الكنيسة الكاثوليكية في العالم، أما شيخ الأزهر فليس له سلطة على أحد من المسلمين وليس رئيساً إلا على مؤسسة الجامع الأزهر، لأنه لا كهنوت في الإسلام ولا وجود لمؤسسة دينية فيه، أو وساطة بين الله والناس حتى للرسول الذي ينحصر دوره في إبلاغ الرسالة وإفهامها للمؤمنين: ” يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته “- المائدة 67 “. وما على الرسول إلا البلاغ المبين” – النور 54. وإبلاغ الرسالة لم يكن يعني نشرها بالقوة، ولذلك لم تكن حروب الرسول تهدف إلى نشر الإسلام بل إلى توحيد العرب تحت راية سلطة مركزية، وتأمين الظروف المواتيه لانتشار الإسلام بشكل حر وإرادي. وعندما جنح الرسول بمبادرة منه إلى فرض الإسلام على من صار تحت سلطة الدولة جاءه الخطاب القرآني لكي يبين له خطأه: ” لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” -البقرة 256. ” فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” – الكهف 29. ” ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” – يونس 99
وقد نبه الخطاب القرآني الرسول إلى أنه لا سلطة له على الناس في الشؤون الدينية وذلك في آيات عديدة ومنها: ” فذكّر إنما أنت مُذكّر لست عليهم بمسيطر” – الغاشية 88 . “وما أنت عليهم بجبار، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد” – ق 45 . ولم تكن طاعة المؤمنين للرسول التي أكدت عليها أكثرمن آية إلا طاعة له فيما بلّغ وذكّر، وطاعة أخرى لدوره المدني كأمير للدولة الإسلامية: ” يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم” – النساء 59. ونلاحظ في هذه الآية أن طاعة الرسول هي من نوع طاعة أولي الأمر أي في الأمور المدنية وليس في الأمور الدينية التي لا رأي للرسول فيها خارج حدود النص القرآني. وبشكل خاص فإن الرسول لا يستطيع أن يحلل ويحرم باجتهاده الخاص لأن التحليل والتحريم هما للقرآن وحده، ومن قال من عنده هذا حلال وهذا حرام إنما يتعدى حدود القرآن.
وهنا نقول لأهل الفقه الشافعي الذين يرون في السنة النبوية وحياً ثانياً اعتماداً على الآية : ” وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى” – النجم 3 ، أن المقصود بالنطق هنا هو النطق بالقول القرآني لا ما يجري على لسان الرسول من كلام يومي ذي صلة بمجريات الأمور في زمان معين ومكان معين، ولا ينسحب على المستقبل، وبالتالي ليس ملزماً للسلمين في كل زمان ومكان، لا سيما وأننا لسنا متأكدين من صحة معظم الأحاديث التي جمعها المصنفون بعد قرنين من وفاة الرسول. وإليكم التفاصيل :
كان نبي الإسلام خلال حياته الزعيم السياسي للدولة الإسلامية الناشئة والمرجع الديني الأعلى، وكان الناس يسألونه في كل ما غمض عليهم من مسائل. وعندما توفي خلفه صاحبه أبو بكر الصدّيق الذي حمل لقب خليفة رسول الله. ولكن خلافة أبي بكر لم تكن دينية وإنما خلافة سياسية، بمعنى أنه لم يكن له مركز ديني أو سلطة دينية رسمية، وكان الناس يسألونه عن مسائل غمضت عليهم لكونه من صحابة الرسول المقربين، مثلما كانوا يسألون بقية الصحابة. وبقيت الأمور على هذه الحال خلال خلافة عمر وعثمان وعلي. وعندما انتقلت الخلافة إلى بني أمية، لم يعد من الضروري للخليفة أن يكون من صحابة النبي وفقد منصب الخليفة أي صلةٍ له بالصفة الدينية لشاغل المنصب، ولم تتحول الدولة العربية إلى دولةٍ دينية في أي عصرٍ من عصورها، حتى في أيام الخلافة الفاطمية بمصر حيث كان الإمام الإسماعيلي هو الخليفة. أما لدى الشيعة الاثنا عشرية فقد كان قيام الدولة الإسلامية مشترطاً بعودة الإمام المهدي الغائب، ولا يجوز قيامها قبل ذلك.
وعلى عكس ماجرى في المسيحية التي ارتبطت بالمؤسسة الدينية منذ نشأتها، فإن الإسلام لم يعمل على تشكيل مؤسسة موكّلة بالإشراف على الحياة الدينية لرعاياه، ولم يكن للمسلمين رئيس ديني مثل بابا الفاتيكان الذي يترأس الكنيسة الكاثوليكية، أوبطريرك القسطنطينية الذي يترأس الكنيسة الأرثوذكسية، ولم يكن لديهم رجال دين متفرغين ينتظمون في تراتبية وظيفية كما هو حال القساوسة والمطارنة وغيرهم من أصحاب الرتب الكهنوتية في الكنيسة المسيحية. على أن غياب السلطة الدينية عند المسلمين لم يكن يعني غياب المرجعية الدينية، فلقد كان هناك على الدوام رجالٌ وثق الناس بعلمهم وراحوا يستفتونهم في مسائل العقائد والعبادات والأحكام الشرعية، وكان من واجب هؤلاء العلماء الاستجابة لطالب الفتوى وإعطاؤه الجواب على سؤاله، ولكن هذه الفتوى غير مُلزمة وبإمكان السائل أن يأخذ بها أو أن يلجأ إلى عالمٍ آخر يستفتيه في الأمر نفسه.
ومنذ أواسط القرن الثاني الهجري ترسخت هذه المرجعيات الدينية عندما نشأ علم الحديث وعلم التفسير وعلم الشريعة وعلم الكلام، وذلك بمبادراتٍ شخصية من علماء وجدوا أن من واجبهم حمل هذه المسؤوليات دون تكليفٍ من أحد ودون أن يكونوا تابعين لمؤسسة توجههم وتراقبهم وتدفع لهم رواتب أو مكافآت لقاء عملهم. ونظراً لغياب مثل هذه المؤسسة، فإن ما أنتجه هؤلاء العلماء في شتى الميادين لم يُصنف على الطريقة المسيحية إلى مؤلفاتٍ قانونية أقرتها السلطة الدينية وأخرى غير قانونية مرفوضة، ولم تُعط أي سلطةٍ سياسية أو دينية لنفسها الحق في اعتماد صحيح البخاري في الحديث ورفض بقية المصنفات أو اعتماد تفسير الطبري للقرآن ورفض بقية التفاسير، أو قبول الفقه الحنفي ورفض الفقه الشافعي.
وفيما يتعلق بالتعليم الديني فقد كان يتم في حلقات المساجد حيث كان علماء الدين يلتقون بتلاميذهم ويعطون علومهم لمن شاء من الرجال والنساء. وكانت هنالك حلقات علمٍ للنساء في المساجد تنعقد في أيامٍ خاصة وأوقاتٍ خاصة. ويمكن لمن اعتقد أنه أكمل علمه الديني أن يلبس اللباس الخاص برجال الدين، وهو العمامة البيضاء والقفطان، في إشارةٍ منه إلى أنه صار في حكم المرجع الديني دون حصوله على الإذن من أي جهة. ولاتختلف مؤسسات التعليم الديني الكبرى مثل الجامع الأزهر في القاهرة عن حلقات التعليم الحر في المساجد سوى في أن من أكمل تعليمه فيها يحوز على ثقةٍ أكبر من الناس باعتباره حاصلاً على شهادةٍ رسمية نظامية من مؤسسةٍ يثق بها الجميع. أما عن السلطة التي يتمتع بها رجال الدين هؤلاء فلا تأتي من الأعلى، أو من طبيعة المنصب الذي يشغلونه لأنه لامناصب لهم، بل تأتي من الأسفل أي من مدى ثقة شريحة واسعة من الناس بهذا الرجل أو ذاك واعتباره مرجعية موثوقة. ولكن بما أن المساجد تحتاج إلى من يدير شؤونها، فقد دعت الحاجة إلى إحداث ثلاثة وظائف في كل مسجد يشغلها رجالٌ دائمون يقومون بمهامها هم: المؤذن الذي يدعو إلى الصلاة في موعدها من أعلى المئذنة، والإمام الذي يقود الصلاة، وخطيب يوم الجمعة الذي يُلقي الموعظة الدينية قبل الصلاة، وهؤلاء لا سلطة لهم خارج حدود مهامهم المحددة، وهم يتقاضون رواتبهم إما من الإدارة السياسية أو من الهيئة المكلّفة بالشؤون الدينية، ونموذجها وزارة الأوقاف في سورية وبقية دول بلاد الشام، والتي تدير شؤون الأوقاف الإسلامية، وشؤون المساجد ومدارس التعليم الديني وما إلى ذلك من مهام. وهذه الهيئة ليست مؤسسةً دينية بقدر ماهي مؤسسة إدارية. وهنالك أيضاً منصب مفتي الجمهورية وهو على كونه أعلى مرجعية دينية في الدولة، إلا أنه يبقى مع ذلك منصباً استشارياً وبلا سلطات فعلية. ولا أدلَّ على الطبيعة الإستشارية لأي نشاط يتعلق بالفتوى من قيام مواقع إسلامية على الإنترنت بتقديم خدمات الفتوى لطالبيها مثل موقع إسلام ويب الذي يستعين بعددٍ من العلماء المؤهلين والقادرين على إعطاء الأجوبة لطالبيها.
في أواخر القرن العشرين ظهرت في حلقات الفقه الشيعي فكرة ولاية الفقيه، التي تنص على جواز قيام أكثر المسلمين فقهاً وعلماً في الدين ومقدرة على الحكم بالنيابة عن الإمام الغائب في قيادة الأمة وإقامة حكم الله على الأرض. وعندما كان آية الله الخميني يقود الثورة الإيرانية ضد حكم الشاه محمد رضا بهلوي، قام بتطوير فكرة ولاية الفقيه في عدد من مؤلفاته وجعلها ولاية مطلقةً. وبعد انتصار الثورة وضع الخميني أفكاره موضع التطبيق، ووضع نفسه في مركز الإمام والقائد والمرشد الأعلى للدولة، ونائباً عن الإمام الغائب. وبذلك صار بالإمكان قيام دولة إسلامية في إيران، وهي أول دولة يمكن وصفها بالإسلامية في تاريخ الإسلام.
لقد جنَّـب الإسلام أهله الحياة في ظل دولةٍ دينية قامعة، كما حررهم من سلطة المؤسسة الدينية والكهنة المرسومين من قبلها. وقد نجم عن غياب المؤسسة الدينية عدم انقسام النصوص المؤسسة للعقيدة والشريعة إلى نصوصٍ قانونية معتمدة وأخرى غير قانونية ومرفوضة. أما النص القرآني فقد أُحيلت سلطته إلى سلطة العقل المفسر، ولذلك فقد أخذت التفاسير تتـتالى بالعشرات منذ القرن الثاني الهجري إلى يومنا هذا، والمسلم حـرٌ في الاختيار بينها أو الاختيار منها وحتى إلى إعمال عقله، وهذا ما قام به المعتزلة على أفضل وجه عندما رجحوا العقل على النقل في مقاصد القرآن أو الحديث. وهذه ظاهرةٌ صحية من حيث المبدأ، تُـيسّـر للمسلمين اليوم إمكانياتٍ لا حصر لها من أجل تحديث الخطاب الديني لغاية جعله متلائماً مع المساحة المعرفية الإنسانية المتوسعة أبداً.
ولكن فهم هذه الحرية والقبول بها لم يكن على درجةٍ واحدة. فقد فهمها الخاصة من أمثال إخوان الصفاء والمتصوفة وعبَّـروا عنها من خلال نتاجهم الفكري والأدبي، كما فهمها المعماريون المسلمون وعبَّـروا عنها في روائع العمارة الإسلامية التي تعكس ذلك الفضاء الروحي الحر الذي زرعه الإسلام في النفس الإنسانية. أما العامة فيمكننا وصف فهمهم وقبولهم لهذه الحرية من خلال الآية القائلة: “أنزل من السماء ماءً فسالت أوديةٌ بقدرها”, أي أنزل القرآن فاستوعبت منه القلوب بحسب اتساعها وصفاء جوهرها.