من بين العشرات ممن يُطلَق عليهم رجال الدين أو شيوخه أو علماؤه، من الذين صادفتهم في طفولتي، كان القليل منهم يُظهرون العطف والمحبة، أو تشي سيماء وجوههم بالرحمة، فكيف يستقيم ذلك ودورهم المزعوم في مسألة روحية في الأساس؟
التفكير في هذه المفارقة لا يخصني وحدي بالطبع، وهو يعتمل في عقول الكثيرين الذين فُرض عليهم الصمت إجلالاً لهؤلاء الوسطاء في الطريق المفضية إلى الإيمان، والمحملين فيها بامتيازاتهم ونياشينهم وعدتهم في اقتناص مصالحهم، ونادراً خلافها. أمام هذه الظاهرة المفارقة كان ثمة سبيلان، الخضوع أو التمرد، والخيار الثاني دونه الكثير من المخاطر في بلداننا المقيدة بسلاسل التكفير والتخوين.
أضعف الخضوع لهؤلاء الوسطاء من فطرة التدين الوجودي وأفقرها، ووضعها في قوالب من الفتاوى والنواهي القائمة على التخويف، أكثر من كونها دعوة لصحوة الضمير وتوطين الطمأنينة والتواصل الهادئ بين المؤمن وربه، فبدا وكأن ثمة وظيفة لطبقة رجال الدين تتمثل في أن تُفسد تلك العلاقة الروحية السامية وتعيد إنتاج عبودية المؤمن على الأرض. بكلام آخر، فإن المؤمن الذي كان يطمح بأن لا يخضع سوى لله، وجد نفسه وقد خضع لحفنة من الوسطاء الدينيين، الذين صار دورهم يتلخص بتبرير خضوعه، أيضاً، لأنظمة الحكم المطلقة التي توظفهم في خدمتها.
لقد أسهب رجال الدين في شرح فطرة التدين وتحليلها حتى استسلمت جماهير المؤمنين لتفاصيل شروحاتهم ونسيت الفطرة ذاتها، وقد اعتادت أن يرسُم لها هؤلاء الطريق إلى الإيمان، فزاد الاغتراب وتشتت الإيمان عبر محطات لا حصر لها من التبجيل والتقديس. قاد ذلك إلى مفارقات كثيرة، اختصرت الدين والتدين في ممارسات وطقوس شغل الاهتمام بتفاصيلها حيزاً أكبر من حياة المؤمن، على حساب البعد الروحي والقيمي والأخلاقي لشخصيته.
في الجانب الآخر، كان العالم يبني قيمه وتشريعاته الدنيوية الملموسة على قاعدة “خير الأعمال ما ينفع الناس”، ومنظومات للحكم والإدارة في إطار دولٍ حديثة، ما فسح المجال للروحانيات أن تتحرر وتنمو وتحلّق من جديد، من خلال حق تمتع الجميع بحرياتهم الشخصية في اختيار طريقة الإيمان من عدمها، انطلاقاً من شرعة حقوق الإنسان الجديدة، كتكثيفٍ وإغناء للتعاليم الأخلاقية التي جاءت بها الأديان وغيرها من منظومات القيم البشرية عبر التاريخ.
نبهت مثل هذه التحولات الدينية العديد من الإصلاحيين الإسلاميين، الذين حاولوا إعادة الاعتبار للأصول الدينية التي جوهرها تلبية الاحتياجات الدنيوية للمسلمين بما يتلاءم مع تطور الحياة عبر العصور، وخاصة بعد أن وصلت المفارقة بين العمل على تثبيت الواقع والحاجة إلى الانطلاق أوجها مؤخراً، مع تسارع التقدم العلمي ووسائل التواصل بين البشر، فبدا وكأن ثمة فصام اجتماعي يهدد بمخاطر يصعب التنبؤ بنتائجها.
لكن محاولات الإصلاح ظلت عاجزةً عن شقّ طريقها إلى دائرة الفعل السياسي، بما يُمكن أن يُسرِّع عملية التغيير الاجتماعي، بسبب أن مصالح الأنظمة السياسية المطلقة تتطلب المحافظة على الواقع لا تغييره، وبغياب وتغييب القوى الاجتماعية المنظمة القادرة على اجتراح التغيير. وبما أن التاريخ سيجد مخارج غير متوقعة له في نهاية المطاف، فإن الإرادات السياسية لبعض الحكام قد تنتبه إلى ضرورة الخروج من المأزق، ومن هنا يمكن النظر إلى محاولات ولي العهد السعودي الحالي وتصريحاته الأخيرة حول أحاديث الآحاد وغيرها، بهدف تحديث المنظومة الدينية السائدة بما يتلاءم مع روح العصر، يساعده في ذلك الدور المركزي للمملكة العربية السعودية في إدارة الشؤون الدينية وتصدير الفتاوى إلى أرجاء العالم الإسلامي.
وبغض النظر عن حجم التغيرات السياسية والاجتماعية العملية التي ستقود إليها تصريحات ولي العهد السعودي، فهي تُعدُّ خطوة سياسية مهمة لنقل جهود الإصلاحيين الدينيين الشجعان إلى حيز الواقع، وقد عملوا منذ أكثر من قرن على الدعوة إلى عودة المنظومة الدينية الإسلامية لشرطها التاريخي من جديد، كما كانت عند نشأتها، ودفع بعضهم حياته ثمناً لذلك.
من خلال هذه الرؤية، يبدو الحديث عن طبيعة الشخصية التي تقود عملية التغيير أمراً ثانوياً، فالتعبير عن التحولات التاريخية العميقة غالباً ما يحتاج إلى قادة سياسيين إشكاليين وغريبي الأطوار، ولكنهم، بحكم السلطة التي يحوزونها، قادرون على نقل التوترات الاجتماعية إلى الواجهة السياسية، من أجل تنفيس الاحتقان والحيلولة دون حدوث تفاعلات مجتمعية يصعب التحكم بها، ولنا في أحداث الربيع العربي مثال عما يمكن أن يفضي إليه احتقان آخرَ ناجم عن الطغيان السياسي.
في مثل هذه الحالة، تساعد قوة السلطة المطلقة وهيمنتها في إحداث التغيير، من خلال ما تسنّه من قوانين وتشريعات تساعد في التقدم في هذا المنحى، وهي السلطة ذاتها التي كانت قد استماتت في الحفاظ على الوضع القائم وحمايته. يساعد مثل هذا التغيير “من الأعلى” على تجاوز الاحتقان الاجتماعي بأقل الخسائر الممكنة، ويفضي إلى خطواتٍ محسوبة على طريق الديمقراطية، من خلال المزيد من المشاركة في اتخاذ القرارات والحريات المرتبطة بها.
على العموم، يمكن مقارنة الطريقة التي تحدث فيها التغيرات في منطقتنا بتطور دولتين أوروبيتين هامتين في المئتي سنة الأخيرتين، هما إنكلترا وفرنسا. فالتطور الحاصل والمتوقع في الدول الملكية وأشباهها يشبه التطور التدريجي الذي حصل في الجزر البريطانية بعد أحداث الربيع الأوروبي (1848)، كسلسلة من الإصلاحات التي عززت الديمقراطية وحيدت السلطة المطلقة، في حين تشبه أحداث الربيع العربي ما حدث في فرنسا، كتغيير انفجاري بدأته الثورة الفرنسية (1789)، ولكنه كان ذا طابعٍ نكوصي، ولم يستعد منحاه الديمقراطي حتى سبعينيات القرن التاسع عشر، في عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة (1876 – 1940).
من المبكر الحديث في هذه المرحلة عن عمق التحول الديمقراطي الذي ستشهده منطقتنا نتيجة لهذين المسارين، الإصلاحي والثوري، وتفاعلهما، ولكن هذا التحوُّل سيتجسد على أرض الواقع في نهاية المطاف، ولو بعد حصول المزيد من الارتدادات والصراعات ذات الصلة.
منير شحود