د .غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
لقد ظلت عبارات الشجب والتنديد لصيقة بالمواقف العربية المتخاذلة إزاء القضايا التي تمس الراهن العربي على امتداده، التي ظلت وسائل الإعلام الثقيلة أهم مصباتها لعقود قبل أن تهب ريح الانفتاح التي أعلنتها وسائل التواصل الاجتماعي، التي لطالما نظر إليها في العالم العربي كروافد لحرية التعبير، وإيصال الصوت المفرد دون تحريف.
لكن يبدو أن العقود الطويلة من الفكر الواحد المفروض والتكميم متفاوت الدرجات، قد أتى حصاده بأن أصاب الجماهير، هي التي لطالما استنكرت مواقف بلدانها الرسمية. على الأقل ذلك ما توحي به قواعد اللعبة على مختلف منصات التواصل الاجتماعية، حين تتفاعل مع مختلف القضايا التي تثيرها.
لم يسبق أن أثارت سلسلة درامية جزائرية اللغط والنقاش كذلك الذي أثارته سلسلة “الدامة” التي أخرجها الجزائري “يحيى مزاحم” وكتبتها الجزائرية “سارة برتيمة”. المسلسل الذي أطاح بنسب مشاهدات القنوات التلفزية الخاصة، أنتجه وبثه التلفزيوني الحكومي الجزائري، يحكي قصة انتشار المخدرات في الأوساط الشعبية من خلال قصة عائلتين تعيشان متجاورتين بالحي الأشهر بالجزائر “باب الوادي”.
الثيمة التي غدت مكرورة في الدراما الجزائرية بعد أن افتتح تداولها مسلسل “الخاوة”. أما قصص الأحياء الشعبية فلا طالما تواترت ضمن الدراما الجزائرية، ولكن شكلت سلسلة “أولاد لحلال” النسخة الجزائرية للمسلسل التونسي “أولاد مفيدة” منعرجاً في تصوير حياة الطبقات الأكثر فقراً، من خلال تصوير الحياة في “حي الدرب” الوهراني، تبعتها سلسلة “بابور اللوح” التي صورت ظاهرة “الحرقة” أو الهجرة غير الشرعية. لكن المميز في “الدامة” مئات ملايين المشاهدات التي حظيت بها السلسلة، بالإضافة لحالة الهياج التي خلفتها على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي ذهبت جلها إلى استنكار موضوع العمل تارة، والتنديد بربط انتشار المخدرات بحي “باب الوادي” تارة أخرى.
لم يكن مسلسل “الدامة” الوحيد الذي أثار ردود أفعال مستنكرة لنقله للشاشات واقعاً جزائرياً، بل كذلك فعل مسلسل “الفلوجة” التونسي الذي عرض خلال شهر رمضان المنقضي والذي يحكي قصص مراهقين بثانوية تونسية، وجد فيه الكثير من مستخدمي السوشال ميديا تشويهاً للواقع، مطالبين أعلى الهيئات بالتدخل لوقف بثه تماماً كما حدث مع مسلسل “الدامة” الجزائري. سلطة إلغاء جماهيرية صارت أوضح فأوضح في العالم العربي، دون كبير اهتمام وتنظير، عكس ما يحدث في العالم الغربي.
خصص الكاتب الفرنسي فريديريك بيغبيديه كتابه الأخير confession d’un hétéro légèrement dépassé لقص إصابته بمرض السكري أواخر الأربعينات من عمره، والذي جاء كنتيجة لاعتداء مجموعة من المناضلين البيئيين على بيته الريفي، حيث كان يقضي عطلته برفقة عائلته، وغيرها من المغامرات التي عاشها، كشاهد على التغيرات التي تعيشها فرنسا والعالم، والتي يبدي فيها بمزيج من السخرية والحزن انزعاجه من التحولات الثقافية السطحية التي أفرزتها وسائل التواصل الاجتماعي. بيغبيديه ليس الوحيد الذي خصص كتابا للموضوع، بل سبقه صحفيون وأكاديميون أمريكيون وأوروبيون لمناقشة الموضوع.
لكن المثير بالنسبة لمن يسعى لإقامة المقارنة سينتبه لتفصيل قد يبدو بسيطاً، ففي الوقت الذي يسعى فيه الملايين من مناضلي مختلف القضايا في العالم الغربي “تطهير ماضيها” أحيانا بتوظيف الوسائل الأكثر وحشية، كتحطيم تمثال مكتشف الأمريكيتين لبروز تفصيل استعباده للأفارقة، وغيره من الشخصيات التي صنعت التاريخ وأعاد اكتشاف الجانب المظلم فيها مناضلو ال2.0 رفعاً لسقف الحريات، وتكسير كل الأصنام الفكرية والاجتماعية (الأمر الذي أخذ يعطي نتائج عكسية)، يبدو العربي في نسخته الأحدث مستعدا للإجهاز على مستقبله، ممارساً التكميم على طريقته، رافضاً أي خوض في ماضيه رغم تعقيده، لا يشترك مع نظرائه من العالم الغربي سوى في الحرب التي يخوضها على الصور، في عالم يعيش على إنتاج الصور، في وقت يستحيل استهلاكها، متصالحاً مع واقع يرفض تجريده فنياً.